الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

حسين وحسيني وأبو علي... الراحل مظلوماً

الرجوع

نُشرت في صحيفة "الشرق الأوسط"
بتاريخ الجمعة 13/1/2023
بات نوعاً من التقليد المستحب ويثري في الوقت نفسه معرفة أو توضيحاً لأمور سياسية ملتبسة، أن ألتقي إثنيْن من أهل العمل السياسي المتجردين عن الطمع بعوائد الترؤس وأطايب ترف المترئسين قانعين حامدين شاكرين راضين الله والنفس.
وفي كل لقاء مع الرئيس سليم الحص وكذلك مع الرئيس حسين الحسيني كنت أعود غانماً المزيد من الأمثولات التي تشكل في مجملها ما يقلل من الشعور بفقدان الأمل في شروق متكامل للبنان الحلم بعد الإشراقة الواعدة المتمثلة ﺒ "التوافق" الذي أوقف إلى حين إحتراباً لكنه لم ينه إحتقاناً ترجمه المحتقنون أزمات وصراعات وإستحالات وشبه إحتلالات، بعد سنوات تلت ما إستقرت عليه صيغة التوافق التي نشير إليها والتي ما كانت أصلاً لتتم لو أن المملكة العربية السعودية قيادة ودبلوماسية مقرونتيْن بتمنيات شعبية ومساندة عربية وإقتناع دولي، لم تبذل من السعي والنصح، وليست فقط مَن رعى ذلك الجمع البرلماني في الطائف ثم في جدة وينتهي الشهر الحافل بالمناقشات من جانب النواب المشاركين في الجلسات إلى توافق أثمر ما سُمي "إتفاق الطائف". وتحضرنا هنا تمنيات الملك فهد بن عبدالعزيز رحمة الله عليه عند إفتتاح المؤتمر يوم الأول من أكتوبر/تشرين الأول 1989 ومخاطبته وجدان المشاركين بعبارة "إن وطناً مثل لبنان عاش في كنفه اللبنانيون جنباً إلى جنب عبْر تاريخ طويل من الوئام والتآخي وكان مثالاً يُحتذى للتعايش والوفاق، لا يجوز أن يتحول لأي سبب من الأسباب إلى معترك يتقاتل فيه الأشقاء. لقد طال ليل المأساة اللبنانية حتى أصبحت كل النزاعات والخلافات مهما كبرت وعظمت لا تساوي دمعة في عين طفل فقد أمه أو صرخة من فم ثكلى فقدت ولدها أو معيلها. وبالتالي فإن إنتهاء هذه المأساة هو الهدف الذي يجب أن يتقدم على كل الأهداف...".
مشاعر الملك فهد هذه ترجمها بدوره الأمير سعود الفيصل (رحمه الله) الذي كان يتبادل المساندة والرؤى وتنقية الأجواء عند إشتداد نبرات التخاطب من جانب بعض المشاركين مع الرئيس حسين الحسيني كونه جمع خرائط طُرق الأطراف المشاركة في خريطة طريق واحدة هي تلك التي ساعدت في إنضاج صيغة التوافق، والتي أوجز مضمونها بمخاطبته المشاركين في جلسة إفتتاح مؤتمر الطائف بالقول "كلنا أمل بأن الفرصة قريبة من بلدنا لبنان لكي يعود إلى دوره العربي. نجاحنا يؤكد ما سعيْنا إليه. يفتح الطريق إلى الوحدة والإستقلال. فشلنا يفتح الطريق إلى الجحيم. نجاحنا يحفظ أصدقاء لبنان إلى جانبنا. فشلُنا لا يحفظ حقاً ولا يؤدي أمانة ولا شيء فيه إلا الخسران...".
لم يعد على الوتيرة نفسها اللقاء التقليدي من جانبي كصحافي وكاتب ينشد من الرئيسيْن سليم الحص وحسين الحسيني إثراء معرفة سياسية أو توضيحاً لأمور ملتبسة أو تفسيراً لكلام مسؤولين يحتمل الإيجابية والسلبية في الوقت نفسه. فالجار الرئيس الحص الذي كنت أصعد بضع درجات من سلم البناية التي كلانا من سكانها، للقاء به في مجلسه الذي لا تواضع بمثل تواضعه، بات في الوضع الصحي الذي يفرض علينا مراعاة ظروفه ونكتفي بما قل ودل من كلام يقوله رداً على إستفسار عابر من جانبي. ثم غادر إلى منزله الآخر في "الدوحة" الحاملة إسمه_ (دوحة الحص) حيث هنالك حديقة وأزهار وهواء ينجيه من تلوث المولدات العاملة على مدار الأربع والعشرين ساعة في معظم مناطق العاصمة نتيجة إنقطاع دائم للكهرباء.
وأما الرئيس حسين الحسيني فإن التقليد الشخصي المشار إليه بقي على حاله، وباتت الأوضاع التي يعيشها المجتمع الشيعي اللبناني بنداً أساسياً في التحادث معه، فكلانا من أبناء هذه الطائفة، الجامع المشترَك بيننا نبْذ التعصب المذهبي وعدم إستساغة التحزب حلولاً وتوطيد ما أمكن توطيد العلاقة مع العرب من الجار السوري حتى الجار الموريتاني مروراً بمصر والعراق والأردن والسودان في إنتظار المرور بفلسطين الدولة وتبركاً بمسجدها الأقصى المستباح من بن غفير وزير نتنياهو وقرة عينه، وصولاً إلى ليبيا وتونس والجزائر والمغرب مع تركيز على السند الخليجي متمثلاً بدوله الخمس. كما كلانا من أبناء منطقة واحدة كانت رائدة في التوجه نحو التغيير ومع ذلك محرومة الإنماء عكس أحوال مناطق جنوبية. وكثيراً ما كان الإنعطاف الحاد من جانب الطائفة في إتجاه زاوية واحدة من البوصلة هي الزاوية الإيرانية يأخذ من جلسة الثبات في الأحوال اللبنانية الحيز الأكثر من علامات الإستفهام والإستغراب والتعجب. الإستفهام لماذا هذه الحدة في الخطاب الشيعي ولماذا هذا الإحتقان الذي لا مبرر له ولماذا هذا التخاطب للأشقاء العرب وكأننا لسنا عرباً. بل ولماذا هذه الإستضافات الثورية التي تروم أذى بدول شقيقة. والإستغراب والتعجب لأن المرونة مغيَّبة دائماً.
هنا أجيز لنفسي القول إن رؤى الرئيس حسين الحسيني كانت كفيلة بإحداث تعديلات إيجابية في الخطاب الشيعي عموماً، لو أن ميدان التخاطب كان أكثر إتساعاً وصدر صاحب الميدان أكثر إنشراحاً. ولو حدث هذا الأمر لما كان المجتمع الشيعي سيشعر آجلاً، وإن كان ذلك بعد فوات الأوان، أنه خَذل مَن هو حسين إسماً وحسيني عائلة وأبو علي كنية، وأن حامل هذه التسميات ذات المعنى الروحي رحَل مظلوماً من بني قومه، وأن رحيله حدث في أحلك الليالي اللبنانية بمعنى الأحوال العامة ظلماً وتظليماً. وكان يمكن لهذه الحلاكة أن تكون أخف قليلاً على الطائفة التي تتزايد الغيوم تلبداً في الفضاء اللبناني نتيجة أن لغة الكلام بين مرجعيتها وسائر المرجعيات اللبنانية ليست على النحو الذي ييسر الأمور، لو أن "الحسين البقاعي _ البعلبكي _الشمسطاري الحسيني أبو علي" ذي الجذور الكسروانية وصاحب الدور التوفيقي الذي أبعد إلى حين الإنهيار الكامل للبنان من خلال دوره المنزه عن التعصب وجاء إتفاق الطائف مثالاً على ذلك، لم يكن في دائرة الإقصاء الممنهَج عن القرار الذي يتخذه الثنائي الشيعي ومن دون أي فرصة للحوار أو حتى الإستئناس بالرأي. هذا ما فعله أكثرية الموارنة مع الغائب الحاضر ريمون اده. خذلاناً ما بعده خذلان. وهذا أيضاً فعله أهل القرار السوري معه في بعض سنوات الهيمنة عندما كانوا يحبذون الإصغاء إليهم ويصمون الآذان عن سماع رؤى الذين يرومون علاقة لبنانية _ أسدية مستقيمة.
بعد الحراك المتميز للسفير السعودي لدى لبنان وليد البخاري والمتمثل بلقاء جامع وغير مسبوق عُقد في قصر اليونيسكو بهدف إرواء شجرة إتفاق الطائف كي لا تقوى عليها إعتراضات لا تخلو من النكران لمكاسب ذلك الاتفاق، كان لافتاً أن الرئيس الحسيني لم يكن حاضراً. وعندما إتصلتُ كما التقليد الذي أشرتُ إليه مطلع مقالتي هذه لزيارته في مقر سكنه المتواضع والإستماع إلى المزيد منه في شأن ما يمكن أن يوضِّح أو يزيد معرفة، قالت لي مديرة مكتبه إنه حالياً لا يحدد مواعيد. وعندما كررتُ الإتصال بعد أسبوع وتكرر الرد أدركتُ أن الصديق العزيز والكريم الذي طالما لاحظتُ في لقاءات سابقة ملامح في شخصه غير مألوفة لا بد هو في وضع صحي دقيق. ثم جاء النبأ الناعي ووجدتُ حالي أعزي نفسي وأترحم على الذي سيظل اللبنانيون الحريصون على لبنان العربي الصدري يذكرون بالخير شمائله.
وفي ما أقوله إن حالي من حال الصديق الآخر لكلينا الرئيس سليم الحص الذي أدعو له بطول العمر تواقاً إلى مجلسه العامر دائماً بالكلام الذي من شأن الأخذ به بقاء لبنان في دائرة السلامة. والله الكريم والمعين.
فؤاد مطر