الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

في غياب الهداية إلى سواء السبيل

الرجوع

نُشرت في صحيفة "الشرق الأوسط"
بتاريخ الثلاثاء 17/1/2023

تتزايد إتساعاً وإنتشاراً ظاهرة التسول في لبنان من جانب جماعات في أكثريتها من غير اللبنانيين. وقبل السنوات الست المنصرمة كان عدد الذين يتسولون قليلاً ثم شهراً بعد شهر حدث النزوح بالألوف من سوريا وبدأ التسول يشق حضوره نحو الشوارع الرئيسية من العاصمة اللبنانية وكان يأخذ أشكالاً في الظاهرة. ثم صار تسولاً عائلياً بحيث أن الأب يأتي بالأطفال وزوجته ويودعهم في نقطة ما من مناطق لها في نظره أهمية من حيث أن العائد يجزي، وعلى أن يتم شملهم عند مغيب الشمس إستعداداً ليوم جديد.

ولقد تنوعت أساليب الأم المتسولة في إستعطاف المارة أو أولئك الذين داخل السيارات. كما هنالك عائلات متسولة باتت تأخذ مكانا لها على شرفات بيوت مهجورة أو محلات تجارية مقفلة بسبب الكساد وكثيراً ما يرى رجال الأمن هذه المشاهد إلا أنهم لا يتدخلون، إذ ليس هناك قوانين تمنع التسول.

وعندما إشتدت ضائقة المصارف وأقفلت هذه أبوابها وباتت إمكانية الحصول على الممكن مما في الحسابات الشخصية محصورة بأجهزة الصراف الآلي المثبتة على أحد جدران هذا المصرف المقفلة أبوابه أو ذاك، فإن ظاهرة التسول وصلت إلى مقربة من هذه الأجهزة في إنتظار الآتين لسحب الممكن من المال، وعندها تبدأ جولة من جولات التسول وتصل الحال إلى أن الأطفال المتسولين وبإيعاز من والدتهم المفترشة الأرض توعز لهم لمحاصرة مَن سحب أو سحبت بعض المال من الصراف الآلي وأحياناً تنتهي المحاصرة بما لا يريد أو تريد صاحبة المال الإقدام عليه.

وحيث أن بعض المتسولين ومن الجنسيْن من طبقة ربما جار عليها الزمان بفعل النزوح الذي كان لا بد منه وكان شديد الوطأة على عيش اللبنانيين عموماً، فإن منظر رجل أو امرأة تبيع المناديل الورقية أو ما شابه ذلك من السلع الزهيدة الثمن بأمل جمع بعض المال بات أيضاً محطة في مشهد ظاهرة التسول. وهذه الطبقة المشار إليها مقتصرة على أفراد لبنانيين، وبعضهم من كرام الناس ومن عائلات تسببت إدارة الدولة في إفقارهم.

ربما تبدو هذه الظاهرة طبيعية في بلد مثل لبنان رُمي بأسوأ وضع معيشي ووصلت الحال إلى أنه كحكومة وبعض المؤسسات الأمنية والصحية بات هو الآخر جزءاً من ظاهرة التسول يتمثل ذلك في مضمون التصريحات التي يدلي بها بعض المسؤولين وتتسم مفرداتها بالتباكي وطلب المعونة تماماً بالروحية التي يتبعها متسولو الشوارع من الجنسيْن.

أما الذي هو مدعاة للإستهجان فإنها ظاهرة التسول في بلد مثل ليبيا شمله خير رب العالمين بثروة النفط الذي لا نضوب له. وفي الحالتيْن اللبنانية كما الليبية لا يتعامل أهل الحُكْم مع ظاهرة التسول بما يضع حداً لها.

وقد يقال إن لبنان الذي تمر بضعة أشهر عليه دون حكومة تدير أمور الناس وتصون مصالح الدولة على النحو الصحيح، من الطبيعي أن تزدهر الشوائب في المجتمع ومن هذه ظاهرة التسول. كما قد يقال إن ليبيا التي إنتقلت من دولة ذات مهابة إلى دولة بحكومتيْن وجيشيْن وساحة مفتوحة لكل أنواع الميليشيات والمرتزقة، من الطبيعي أن تنمو المظاهر السيئة فيها ومنها ظاهرة التسول وينتهي الأمر في حال بقيت الأحوال على ما هي عليه أن تتكون مع مرور الزمن حالة "دولة النفط والتسول" مثل ما ستتكون في لبنان "دولة الفراغ والتسول".

يحزن المرء عندما يستحضر من الذاكرة أي حال كان عليه لبنان وكيف تزايدت سُرعة الإنحدار، إلى أن أصبح وطناً تنمو فيه بسرعة قياسية ظاهرة التسول التي بدأت مع غرباء ثم إنضم إليها رافد لبناني ومن كل الطوائف.

كما يحزن المرء عندما يستحضر من الذاكرة أي أحوال كانت عليها ليبيا وإزدهرت فيها ظاهرة العمال والموظفين والفنيين الكادحين، الذين أتوا من مصر وغيرها للمشاركة في إعمار الدولة التي كانت ترحب بالوافدين الذين يؤدون العمل الوظيفي أو العمراني خير تأدية وفي الوقت نفسه يشاركون بالعائد الذي يحصلون عليه في تنمية مجتمعاتهم في مصر والسودان وفلسطين ولبنان وتونس وحيث هنالك وافدون للعمل.

ثم تنطوي صفحات هذين المشهديْن المضيئين وتحل محلها صفحة بشعة في لبنان وأكثر بشاعة في ليبيا وهي صفحة ظاهرة التسول.

لعل هذين المشهدين يغيبان بعد أن يستعيد لبنان رونقه الذي كان عليه وكذلك ليبيا. ومن المصادفة اللافتة أن كلمة كل من الوطنين تبدأ بحرف اللام. وليس بالأمر العسير غياب المشهدين.. إنما عندما تنشر سفينة الهداية أشرعتها في الدولتيْن وتحل الهداية في الدولتيْن. وبالهداية تتشكل حكومة في لبنان ويتم إنتخاب رئيس لعهد جديد يصحح شوائب حقبة مضت. وتتخلص ليبيا من الظاهرتيْن البشعتيْن ظاهرة المرتزقة المتمكنة وظاهرة التسول التي هي على طريق التمكن كتلك التي بلغت ذروة الإزدهار في لبنان.

ولكي لا يبدو أمر الظاهرة وكأنما هو حصراً مقتصر على لبنان وليبيا، فإن ما يحدث في سوريا هي أنواع من ظاهرة التسول، كذلك في العراق الذي حاله نفطياً من حال ليبيا. ولكن مَن إضطربت أحوال الحكم فيه فإن الظواهر السلبية تتكاثر ومنها ظاهرة التسول. ولولا طفرة التنمية التي تزداد حدوثاً في مصر لكانت ظاهرة التسول بقيت على حال كانت عليه ثم شيئاً فشيئاً على أهبة أن تحتويها مشاريع التنمية المستدامة. وفي حال بقي اليمن على حالة الإختطاف الحوثي لجزء منه والذي طال زمنها فإن هذا البلد السعيد ماضياً كتمنيات سيشهد طفرة نوعية من ظاهرة التسول، كما طفرة مماثلة في السودان في حال إستمر السودانيون بجناحيْهم العسكري والمدني على وتيرة عدم حسم خلافاتهم بشكل نهائي غير متنبهين إلى أن ظاهرة التسول تزداد إنتشاراً وستتحول إلى ما هو أسوأ بكثير إذا كان الطيفان لا يتكلان على الله ويقرران أن الصيغة المناسبة لأفضل حال هي الأخذ بمعادلة ما للجيش بركنيْه الهادىء والسريع لكليهما وما للمدنيين المتوافقين وليس المتنافرين الحصة الموازية.. وكفى المماطلة في الأخذ بالتوافق، مخاطر بقاء الأزمة تعصف بهم عصفاً ربما ينتهي شبه مأكول.

خلاصة القول إن هذه السطور مجرد خواطر عن جانب من أحوال تعيشها الأمة والتي هي أحوال لا تسر الخواطر، وتترك إنطباعاً بأن الحاصل هو: إلى الوراء در، عوض إلى الأمام سر. هدى الله غير المهتدين إلى سواء السبيل.

فؤاد مطر