الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

الأعمال بالنيات بعد المصافحة الفاترة

الرجوع

نشرت في صحيفة " الشرق الأوسط"
بتاريخ 3/12/2022

عند التأمل في الصورة التي إعتمدتْها للنشر الرئاسة المصرية عن لقاء المصالحة الفاترة يوم الإثنين 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2022 بين الرئيسيْن عبدالفتاح السيسي ورجب طيب أردوغان بتمنيات من راعي المصالحة والساعي إليها أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني يخرج المتابع مثل حالنا لمسيرة العلاقات المصرية _ التركية بدءاً من الحقبة التي شكَّل عهد الرئيس (الراحل) محمد مرسي إزدهاراً لصالح تركيا الأردوغانية وصولاً إلى ما بعد إزالة العهد والشروع المستمر في إبتلاع جذوره الإخوانية منذ أن باتت مصر في عهدة الرئيس العسكري _ المدني عبدالفتاح السيسي وبلوغ العلاقة مع تركيا ذروة التأزم، بإنطباع أن الحذر ما يزال سيد الموقف وأن مسايرة الرئيسيْن اللدوديْن لمضيفهما أمير قطر ومونديالها المبهر الذي تشارك الأمتان بالتقدير الشيخ تميم ووالده وشعب الدولة التي تسعى إلى جمْع الرؤوس _ الرئاسات على قاعدة أن أول الحل للأزمات هو النية وثانيهما وضع اليد باليد فثالثهما المباشرة بالحوار وعلى قاعدة (يا جاري أنت بحالك وأنا بحالي)، وأي إضافة تعاون بالتفهم والتفاهم والنوايا الحسنة تكون خيراً وبركة.

وبإستعادة المصالحة التي تمت سابقاً بين الرئيس السيسي والشيخ تميم وأثمرت زيارتيْن متبادلتيْن شهدتهما القاهرة والدوحة ومزيداً من التفهم لأهمية الاستقرار في العلاقة بين دولتيْن تجمعهما أواصر كثيرة لمصلحة الشعبيْن، فإن المأمول هو المزيد من السعي التميمي لكي تكتمل اللوحة المنقوصة الزهو للعلاقات المصرية _ التركية. ومن الطبيعي في الذي بدأ مسعى أثمر خطوة أولية أن يواصل لإنجاز المزيد من الخطوات.

لكن السعي لن يشق طريقه في حال أن الرئيس أردوغان سيواصل السير في مشروعه الليبي معتبراً أن ما كان يشكِّل إقلاقاً من جانب تركيا للحكم المصري قد أخذ طريقه بالتدرج نحو التلاشي من باب إبداء حُسْن النية وبما يحقق السعي التميمي لمصافحة تنتهي بمصالحة، فلا كَرَم إستضافة للإخوان المسلمين الساعين إلى إستعادة عرشهم المفقود في المحروسة ولا مراكز إعلامية فضائية وورقية ومواقعية تنشط على مدار الساعة من إسطنبول ضد النظام الذي يقوده الرئيس السيسي. لكن هنا التعامل المفاجئ من الرئيس أردوغان مع "إخوانه" المصريين يبدو في رد الفعل المصري المتحفظ كما لو أنه سيناريو لمقتضيات ما هو أهم، وهو تحفُّظ في مكانه ذلك أن الرئيس التركي يطوي مؤقتاً صفحة رعاية "إخوانه" المصريين للتركيز على مشروعه الليبي، أي بمعنى آخر تقديم الأهم على المهم، مع ملاحظة أن مصر السيسي شديدة الإرتياب من هذا المشروع. فإذا كان العامل الجغرافي لمصر من تركيا يجعلها مطمئنة، فإن هذا العامل يقلقها لجهة إمتداد الأرض المصرية بالأرض الليبية ولكون المشروع الأردوغاني يزداد رسوخاً في ليبيا، وإلى درجة أن تركيا باتت الدولة المنفردة إستحواذاً بنسبة ملحوظة على القرار في ليبيا، وهذا يعني أن ما لم يحققه الرئيس أردوغان بالورقة الإخوانية وجعْل تركيا مستقراً للإخوان المصريين يرجمون النظام في مصر بأثقل الكلام وينشطون سراً بدعم تركي سخي في أوساط الرأي العام المصري، يمكن أن يحققه ﺒ "الحلفاء" الليبيين. وعلى مدى سنتيْن متتاليتيْن لم يهدأ تنشيط التأثير التركي على القرار في ليبيا كما لم يتوقف الإستحواذ بالتدرج للشأن الأمني وجديده قيام قائد القوات التركية في ليبيا عثمان إيتاج ومحمد الحداد رئيس أركان القوات الموالية لحكومة الرئيس عبدالحميد الدبيبة مساء يوم الخميس 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2022 بحضور حفل تخريج دفعة جديدة من ضباط مدرسة المشاة والمدفعية والمدرعات بعد تلقيهم تدريبات على أيدي ضباط من الجيش التركي. يا لخيبة العروبة ببعض بنيها.

ومع أن من الطبيعي أن يكون هنالك تعاون عسكري بين دولتيْن ويقوم الجيشان أو الأفرع فيهما بين حين وآخر بمناورات لإختبار القدرات، إلاّ أن ذلك يستوجب إستقلالية كل من الدولتيْن، وهذا متوفر لتركيا إلاّ أنه منعدم إلى حد ما بالنسبة إلى ليبيا حيث جيشها جيوش وحكومتها حكومتان ومؤسساتها منقسمة وميليشياتها بالعشرات وإلى تزايُد. هنا واجب القول إن الطبيعي هو أن تقوم المؤسسة العسكرية المصرية بمثل هذا الدور القومي والوطني كما الحال سابقاً وحيث اللغة واحدة ولا حاجة للترجمة، كما حيث المشاعر أيضاً واحدة. ولكن اللافت أن إحدى حكومتيها، أي الحكومة الدبيبية تتحسسس على ما يجوز الإعتقاد من مصر وتفضل الجار البعيد على الأخ القريب. ووسط هذه الحال يستقر المشروع الأردوغاني الذي يشكِّل وجوده في ليبيا المحاددة لمصر الخطر الواردة معالمه في بال الرئيس السيسي والذي لمسه بكثير من التبصر من خلال قول أردوغان له وهو يشد بيساره على الكف الأيمن للرئيس المصري وعلى سمع من الشيخ تميم وبصره "إن طلب أنقرة الوحيد من مصر هو تغيير أسلوبها تجاه وضْع تركيا في البحر المتوسط". وما يخفيه الطلب، ولا بد فِهمَه الرئيس السيسي خير فهْم هو أن تترك مصر للمشروع الأردوغاني في ليبيا ما دام هو الأكثر تأثيراً، أن يستكمل محطات هذا المشروع. ولا ريب في أن إحداها لاحقاً هي إستعادة العرش الإخواني المنزوع. ومثل هذا الإحتمال إفترض الرئيس السيسي حدوثه ومن أجْل هذا كان قبل سنتين ذلك المشهد العسكري البالغ الأهمية من حيث العدد ونوعية الأسلحة براً وجواً على الحدود مع ليبيا الذي عايشه المصريون الذين يوجسون خشية من المشروع الأردوغاني بحيث وبعد أن يحقق مبتغاه عسكرياً وإستحواذاً سياسياً وإقتصادياً في ليبيا يبدأ التعامل مع مصر على نحو ما هو تعامله منذ بضع سنوات، وبلغ مداه حديثاً مع العراق وسوريا وتحت مقولة الرئيس أردوغان بين الحين والآخر "لا نطلب إذناً من أهل الحكم في سوريا ولا في العراق عندما نقرر القيام بعملية عسكرية". وأحدث مقولاته يوم الجمعة 25 نوفمبر 2022 في رسالة موجهة إلى رجال الأعمال الترك وأيضاً برسم إدارة إدارة الرئيس جو بايدن وكذلك برسم الكرد الثائرين في بعض كل من سوريا والعراق وتركيا نفسها وبعض دول الغرب الأميركي والأوروبي وكل من يتحفظ على العمليات العسكرية التركية في سوريا والعراق "سنواصل بكل عزيمة ودون توقُّف نضالنا حتى نبني تركيا العظيمة والقوية...". تماماً كالمنطق الإيراني.

وهكذا يبقى المشروع التركي توأم المشروع الإيراني في سباق الهيمنة على بعض المنطقة العربية. ويا ويلة لبنانِها وليبياها وسورياها وعراقها ويمنها وبعض فلسطينها إذا كان لن يسلك أصحاب المشروعيْن صراط الجوار الحضاري والتأمل بعمق في ما ينتج عن مشاريع الهيمنة والتطاول.. كما الحاصل من جانب روسيا بوتين مع جاره الأوكراني... مع ملاحظة أن ما في الكتب السماوية من الكلام الطيِّب ما يجعل الهداية تغمر القلوب وتنقذ النفوس من الندامة.

فؤاد مطر