الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

تأملات في قمم المنتجعات

الرجوع

 نشرت في صحيفة "الشرق الأوسط"
بتاريخ الخميس 24/11/2022

عند التأمل في أجواء القمم الأممية المتلاحقة من قمة المناخ "كوب 27" التي إستضافها الرئيس عبدالفتاح السيسي في شرم الشيخ (6 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022) إلى قمة العشرين التي إستضافها الرئيس الأندونيسي جوكو ويدودو في "بالي" (الثلاثاء 15 نوفمبر)، قبل أن تزلزل الأرض زلزالها في إحدى مناطقها، وبعدما كان القوم العشروني غادروا، إلى قمة "أبيك" في بانكوك (الجمعة 18 نوفمبر) إلى القمة الفرنكوفونية في دورتها اﻟ 18 في "جربة" (السبت 19 نوفمبر) فإن المتابع لأجواء هذه القمم مثل حالنا، يجد ذاكرته تستحضر أجواء الستينات ذلك الزمن الذي نشأت فيه حركة عدم الإنحياز ونمت وأخذت حقها من الإلتفاف الشعبي حولها، قبل أن يزعزع كبار الشأن الدولي بصراعاتهم وشغفهم في سباق التسلح والمناكفات التي تؤسس لحروب بنيان تلك الرحلة مستغلين في ذلك الرحيل المفاجئ والمتتابع لكل رموزها.

في القمم النوفمبرية الأربع إنحسار ملحوظ لمفردات الصراع وتشاوف الكبار على مَن دونهم. ربما يكون المكان أحد العوامل في ذلك حيث القمم إستُضيفت في منتجعات بدءاً بالساحل الذي يبعث البهجة فيه بعدما حولت مصر شرم الشيخ إلى ريفييرا مصرية خلبت ألباب الذين قصدوها وبالذات الروس الذين كانوا قاصدين دفء شواطئها وأطايب مطاعمها لولا أن رئيسهم فلاديمير بوتين رماهم في حرب لا يريدونها مفضلين أن تبقى الحال على ما هي عليه ومن دون كابوس إستعادة الفرع الأوكراني إلى الأصل الروسي بحرب ظالمة تكراراً مريراً للكابوس الصدَّامي الذي حاول بمقتضاه العراق الصدَّامي إلتهام الكويت لكن الأمر إنتهى أن تحالفاً دولياً بقيادة أميركية _ بريطانية إلتهم العراق وحقق للثورة الإيرانية الفاغرة الأنياب ما تبغيه إنتقاماً من هزيمة ألحقها عراق صدَّام بها، ثم البدء بقضم سيادة العراق وعروبته وشأنه كرقم بالغ الأهمية في المعادلة العربية _ الإقليمية _ الدواية.

وكما أجواء منتجع "شرم الشيخ" جعلت التطلعات السياسية تتراجع نسبياً أمام الضرورات الإنسانية، فإن الإنعقاد في "بالي" إحدى الجزر الأندونيسية الساحرة جعل بعض الذين في نفوسهم هوس السيطرة وإعتماد القبضة عنصر قوة لهم، يتأملون في جماليات المكان الذي هو هبة من رب العالمين إلى بني البشر لكي ينعموا فيه ويجددون الشكر لله سبحانه وتعالى مع إشراقة شمس اليوم. وبطبيعة الحال فإن سحر الطبيعة في مكان مثل ساحل "شرم الشيخ" في مصر وجزيرة "بالي" في أندونيسيا له تأثيره البالغ خلاف ما كان الإنعقاد سيتم في قاعات مُحْكمة الإغلاق في عواصم تكاد تختنق من تكدس البشر والسيارات والمناخ الذي يكتم الأنفاس كما هي الحال في القاهرة وجاكرتا على سبيل المثال لا الحصر حول العواصم والمدن التي تجاوز الإكتظاظ السكاني فيها نقطة الإختناق في إنتظار أن يشق السعي المناخي طريقه فيعالج ما يتوجب العلاج. وللمناسبة يا ليت المسربَل بنوازع الحرب وتدمير البنى التحتية ومحطات توليد الكهرباء وتشريد الناس في الشوارع مذعورين من أهوال القصف المجنون، ونعني بذلك الرئيس بوتين، أتى إلى "بالي" كما الآخرين ولم يرسل وزير خارجيته الذي كان حضوره موضع تهميش من الجمع المشارك، وحاول بالحسنى وليس بالمفردات النووية، تهدئة خواطر الجمع الدولي الغاضب على ما فعله حرباً وتدميراً وحجباً للغاز إستباقاً للبرد القارس عن مجتمعات في أكثرية دول العالم ترى أن السلام على الأرض والمحبة بين الناس والحمد والشكر على نِعَم الله على عباده وإعتبار الهوس النووي إنتهى في هيروشيما ولا سماح لإستعماله من جانب مالكيه تنبيهاً للجنوح الإيراني نحو إمتلاك هذا السلاح وعدم التأمل في مطالب الناس التي هي الحد الأدنى والإمعان تصويباً بالغ الخشونة لحالات الغضب الشعبي ومعالجة هذه الحالات بتوسيع منسوب العقاب من دون الأخذ في الإعتبار أن هذا العقاب قد يردع إلى حين لكنه يسرِّع في تينيع الثورة الخمينية ويقرِّب حين قطاف نظام مرشدها الخامنئي. ومع التصحيح الموجب إتخاذ خطوة في شأنه من جانب بوتين، توضيحاً يلقى القبول وليس إعتذاراً يصعب الإفصاح عنه، دعوة الحاضرين إلى مضافة لهم على شواطئ البحر الأسود يكون فيها فلادميير الآخر (الأوكراني) حاضراً وممدودة اليد الروسية إلى اليد الأوكرانية. وهذا ما يريده الناس بدءاً بالرأي العام الروسي فالأوكراني فسائر بني البشر في القارات الخمس التي باتت عاديات المناخ تقض المضاجع وتخطف الطمأنينة من النفوس.

لم تكن بانكوك منتجعاً سياحياً وإنما عاصمة رمز تجربة مشهودة في التنمية، رحبت خير ترحيب بزائرها ولي العهد السعودي ورئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان المتميز مكانة ودوراً طموحاً في إدارته لسياسة المملكة والتعامل مع دول العالم وبالذات الكبار الذين ترتبط الصراعات بهم، كما فيه بعض الشبه من بناة الذين قادوا في زمن الستينات حركة عدم الإنحياز جمال عبدالناصر وجواهر لال نهرو وأحمد سوكارنو والماريشال تيتو وشو ان لاي. فقد إنتهج الأمير محمد نهجاً من العلاقة المتوازية مع كل من الولايات المتحدة وروسيا والصين وبريطانيا وفرنسا جعلتْه يبدو رائد نهج لمفهوم جديد لتجربة عدم الإنحياز، بمعنى أن لا خوف من هذه الدول الكبرى أو تلك ولا الحاجة إلى أميركا وروسيا كما في الماضي غير البعيد وإلى الدول الثلاث الباقيات، وإنما بناء الدولة المتماسكة القادرة أن تبقى في منأى عن طلب الحاجة الماسة، وفي الوقت نفسه النأي عن تفضيل دولة كبرى عن دولة سواء بداعي الخشية أو بداعي ضرورة مراعاة موقعها وإلى درجة الإصطفاف، صراعاً بارداً كان الموقف أو حرباً طاحنة. ولنا في التعامل السعودي _ الإماراتي عموماً مع الحرب الروسية ضد أوكرانيا الدليل على الموقف المتوازن مع دول اﻟ "نيتو" وكيف كان الموقف متميزاً بنكهة من سياسة عدم الإنحياز بالنظرة المعدَّلة لهذه السياسة قياساً بسياسة تجربة عدم الإنحياز في الستينات.

خلاصة القول إن إهتمامات الشعوب بعد الآن هي حول العيش الهانىء والسلام السائد والمناخ الصحي والماء النقي. ما عدا ذلك لا مكان له في النفوس. وما أفرزته قمم المنتجعات تشكل أحد معالم الزمن الآتي.. زمن الإنحياز إلى ما ينشر الطمأنينة في النفوس والخير على الأرض..

والدعوة مستمرة لهداية الذين في أشد الحاجة إلى الهداية.

فؤاد مطر