الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

جنرال للمرة الأخيرة بعد القمة العربية

الرجوع

نُشرت في صحيفة "الشرق الأوسط
بتاريخ الثلاثاء 11 أكتوبر/تشرين الأول 2022

في حال إستقر أمر السودان وتم بالتراضي المأمول إقتسام السُلطة، فإن الفريق عبدالفتاح البرهان سيشارك للمرة الأُولى في مؤتمر عربي على مستوى القمة وتكون هذه المشاركة مناسبة لكي يتعرف على قادة لم يسبق أن يتعرفوا به، ذلك أنه على مدى سنتين تولى فيهما، وما زال، رئاسة مجلس السيادة زار مصر والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات ولقي من المساندة والنصح ما جعل صيغة الحكم الإنتقالي في السودان تتماسك ولا تعصف بها جولات وصولات الحراك الشعبي الذي رأى محركوه أنهم بالتظاهرات وببعض الهتافات المستفزة يمكنهم إستبدال صيغة المشاركة العسكرية _ المدنية بصيغة يكون الطيف العسكري مجرد مؤسسة من مؤسسات الحكم وليست الحكم الذي يحتوي المؤسسات.

في القمة العربية الدورية العادية المأمول إنعقادها في الجزائر يوميْ 1 و 2 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري سيجد الفريق البرهان أنه العسكري الوحيد بين الجمع الملكي والأميري والسلطاني والرئاسي، وهذا سيجعله يتأمل بعمق في نعمة إستقرار الحكم الذي ثبَّت هؤلاء القادة أساساته، وفي أهمية الأخذ بالصيغة التي تجعل الاستقرار هذا يشق طريقه وبخطوات مدروسة. وهذا على سبيل المثال والحصر، كون التجربة فريدة، ما إعتمده الرئيس عبدالفتاح السيسي في مصر الذي روَّض قبضته العسكرية خطوة تليها خطوات، وإبتكر صيغة شراكة الحكم على قاعدة التنمية وبكافة مستوياتها تؤدي بموجبها المؤسسة العسكرية إلى جانب الدور الأساسي لجهة صيانة الوطن وكيانه وكذلك الأمن المجتمعي، مهمات في مشاريع متعددة الغرض ومتنوعة الإنتاج من الغذاء إلى الدواء إلى التصنيع الخفيف، وبهذه الصيغة بات المواطن المصري مطمئناً إلى أن الحكم بالمعادلة التي بلور معالمها رئيس البلاد يحقق المطالب بقدر المستطاع وإنتهج سياسة متوازنة، وبات في ضوء ذلك أيضاً لا يرى أنه يحتاج إلى الحزب السياسي الذي يتبنى المطالب ويمارس الضغط على مؤسسات الحكم لتأمين الإحتياجات. بل حتى أن صيغة "الحزب الوطني" الذي رأى فيه الرئيس الراحل أنور السادات سياجاً يحمي النظام من كثرة الأحزاب، لم تعد واردة في حقبة الحكم الحالي الذي يرى في الحوار الوطني الرحَب خير بديل عن الحزب والمتحزبين.

وبالنسبة إلى السودان الذي يعيش منذ إسقاط نظام ذهب بعيداً في إقتباس حالة الحكم في مصر في ظل تجربة الإخوان المسلمين، حالة عدم الإستقرار على ما يحقق طمأنينة شعبية كتلك التي أمكن الرئيس عبدالفتاح السيسي العسكري بصيغة الشراكة المدنية _ العسكرية تحقيق خطوات على طريق تثبيتها، فإن الصيغة المشار إليها هي الخيار الذي يبقى أفضل من أي صيغة قد تكون واردة في بال الثنائي البرهاني _ الحميدتي القابض على الحكم منذ سنتين حفلت أيامهما الساخنة عموماً بالإجتهادات التي كانت تحتاج إلى الكثير من ترتيب الأولويات.

وإذا جاز الإفتراض فإن العالم العربي على موعد مع تغيير جذري في السودان بعد القمة العربية ومشاركة البرهان فيها بالزي المدني غير تلك البدلة الجنرالية التي رأيناه مع أبناء الشعب السوداني المتلهف إلى رئيس مدني، يتعمد إرتداءها لدى تسلُّمه يوم الخميس أول سبتمبر/أيلول 2022 أوراق إعتماد جون غودفري الذي هو أول سفير للولايات المتحدة لدى السودان بعد قطيعة دامت ربع قرن. وكان لافتاً أن غودفري ومن قبل أن يقدم أوراق إعتماده إلى البرهان حدد وباللغة العربية التي إكتسبها من سنوات عمل دبلوماسي _ أمني في سوريا وليبيا والعراق والسعودية خارطة طريق مهمته كسفير للولايات المتحدة لدى السودان غير المستقر على حال، وبدا بذلك قاطعاً الطريق أو مستبقاً خطوة نوعية يعمل الثنائي البرهاني _ الحميدتي على إنضاجها وبحيث يتم حسم أمرها بعد أن يكون رموز العمل الحزبي والحراك الشعبي إستقروا على حال، مقتنعين بأن مرحلة الشراكة العسكرية_المدنية هي الصيغة التي يمكن الأخذ بها وقد إكتملت مقوماتها، حكومة على قاعدة التراضي والإرضاء أو برلماناً يكون نتاج انتخابات لا ضغوط عليها، أو برنامج عمل في ضوء خطة تنقذ السودان فلا يصيبه ما أصاب ليبيا على سبيل المثال لا الحصر حيث إنتهى أمرها، وحتى أعجوبة تحدُث أو تُستحدث أفغانستان بطبعة فريدة من نوعها.

وأما خارطة الطريق التي بكَّر السفير الأميركي في طرح ملامحها على الملأ السوداني وكان بذلك سفير إحراج أكثر منه سفير لأم جراح معنوية أتعبت الطيف العسكري المستحوذ على السُلطة ورموز الحراك الشعبي الذين أنهكهم الصد العسكري لمطالبهم، فإنها تتمثل في الإيحاء بأنه جاء سفيراً ليحقق مطالب المطالبين بالحكم المدني وإن هو إعتمد الصياغة الملطَّفة المتمثلة بقوله لرموز في الحراك الشعبي ضد الثنائي العسكري القابض على السلطة البرهان وحميدتي، كمثل عبارته "إن السودان يجب أن يستأنف التحول الديمقراطي تحت قيادة مدنية...".

هنالك من دواعي الخشية ما يجعل الإدارة الأميركية تختار لمَن يمثلها في السودان بلغتهم ويتضمن كلامه ما يراه الطيف العسكري الممسك بمقاليد السلطة إلى حين يجتمع رموز الطيف المدني على كلمة تحقق توافقاً ثابتاً على صيغة حكم بديلة، ليست تلك التي تعكسها بياناتهم وبداية تصريحات السفير الأميركي وعلى نحو ما أشرنا إلى نموذج منه في سطور سابقة وبالذات كلمة "يجب". وأما الدواعي فإنها الخشية من أن الطيف العسكري وتحديداً الجناح الذي يمثله جنرال التدخل السريع حميدتي قد يرى تحت وطأة الإلتفاف على ما هو قائم _ ومن أجل ذلك يأتي السفير جون غودفري_ إبرام معاهدة فاعلة المضمون مع الرئيس بوتين، خصوصاً أنه سبق لجنرال التدخل السريع أن باغت الإدارة الأميركية وزار موسكو وأبرم إتفاقاً مع الرئيس الروسي ما زال طي الكتمان وإن قيل في حينه أن ذهب السودان كان من ضمن التباحث بين الإثنيْن وكذلك حسم مسألة القاعدة البحرية الروسية.. إنما بعد إستباب الأمور وإمساك الثنائي العسكري بكامل خيوط المعادلة.

من شمائل أهل السودان عموماً أنهم صوفيون حتى إذا لم يكونوا في مجملهم تابعين لهذه الطريقة أو تلك. وهذه الصوفية تجعلهم أكثر قدرة على التحمل. ولكن يبدو أنهم في ضوء الدور الأميركي الذي رسم السفير بعض ملامحه على موعد ربما تكون التطورات فيه درامية. لكن في إستطاعة البرهان في ضوء المشهد الوفاقي في القمة العربية الدورية المستضافة في الجزائر التي عانى شعبها على مدى ثلاث سنوات بمثل معاناة الشعب السوداني، يستخلص المتيسر من العِبر التي تقطع الطريق على العبرات في حال حدثت المفاجأة الدرامية الواردة الحدوث في أي لحظة.

ويبقى أنه لو أُجيز لمتابع مثل حالي قضايا السودان ماضياً وحاضراً ودائماً تسجيل نقطة نظام، لكنت أوجزتها بالإستغراب لمطالبة البرهان يوم الثلاثاء 6 سبتمبر 2022 بريطانيا بالإعتذار عن جرائم مرحلة إستعمار السودان، فيما المملكة المتحدة ومعها العالم من أقصاه إلى أقصاه في حالة من التآسي لرحيل الملكة اليزابيت الثانية التي كانت ذات ثلاثة أيام من الخمسينات زائرة مرحباً بها كل الترحيب للسودان بدءاً بعاصمته المثلثة وإنتقالاً إلى مناطق أُخرى. وبعد إنقضاء الأيام الحزينة فلتكن مطالبة الملك تشارلز بالإعتذار عن مرحلة إستعمار السودان وإرفاق المطالبة بالإعتذار عن وعد بلفور وبذلك يخفف البرهان من بقايا دهشة السودانيين والعرب لمسارعته في إعتبار إسرائيل دولة يمكن التعامل معها تطبيعاً جوياً وأمنياً.

أعان الله السودان وفرَّج كرب أهله الطيبين في ضوء القمة العربية في الجزائر وخصوصاً إذا شارك فيها البرهان كرئيس سلطة عسكرية وعاد منها إلى السودان جنرالاً للمرة الأخيرة وبدءاً لرئيس سلطة مدنية _ عسكرية تعطي لكل طيف حقه ودوره. وعندها تستعيد ميادين العاصمة المثلثة هدوءها وصفاءها.

فؤاد مطر