الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

اليد المغربية.. للمصافحَّة الجزائرية

الرجوع

أُرسلت إلى صحيفة "الشرق الأوسط"
بتاريخ الخميس 24/8/2022

على نحو ما كان والده الملك الحسن الثاني رحمة الله عليه يحوِّل القمم العربية التي إستضافها في الدار البيضاء والرباط وفاس من ساحة تبلغ التناقضات بين مواقف قادة بعض الدول الأعضاء مداها إلى ما يجعل البغضاء تتراجع لدى أطراف عربية وتحل محلها أجواء من الود.. هكذا نهج الملك محمد السادس.

ولكم شارك البعض من القادة في تلك القمم ونفوسهم ملأى بالتحدي تجاه بعض آخر، ثم بكياسة وعبارات سياسية وروحية يدخل الجميع قاعة إنعقاد المؤتمر وقد حلت المودة وطُويت لدى البعض مشاعر وصلت إلى درجة العداوة.

ولقد تسنى لي كصحافي غطى أجواء القمم العربية وما حفلت به جلساتها السرية وأيضاً ما كان يجري في الكواليس، الوقوف على تخريجات الملك الحسن الثاني ومنها ما رواه لي محمد أحمد نعمان رحمه الله ما أحوج الضائقة الراهنة في اليمن إلى حذاقة تخريجاته، من أن العاهل المغربي وفي محاولة منه لترويض مواقف بين أطراف تصل أحيانا إلى درجة العداوة ومنها على سبيل المثال لا الحصر ما بين مصر السادات وسوريا حافظ الأسد وما بين هذه الأخيرة وعراق صدَّام حسين، كان يستحضر من كتاب الله من القول ما يخفف وطأة الحدة حتى أن الآية الكريمة "عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم" كثيراً ما إستحضرها قولاً في سعيه.

وإلى ذلك كان يحرص بعد كل قمة من الخمس التي إستضافها على أن يستبق عبارة الشكر على الإستضافة التي يتضمنها البيان الصادر بإسم الملوك والرؤساء بالقول في كلمة الختام التقليدية ما يجعل خطوات التوفيق التي أنتجت سعيه تزداد ثباتاً. وفي ذاكرتي قوله على سبيل المثال في هذا الشأن مخاطباً القادة المشاركين: "أود أن تطيلوا المكوث معنا أكثر من هذا حتى نتمتع بكم ويتمتع شعبنا بكم وحتى ننير أذهاننا أكثر بآرائكم ومناقشتكم للمستقبل فالبعد والنوى هنا لا يزيدون إلا تقارباً وتضامناً وإيماناً بالله وإنما بقضيتنا...".

وأما إعتراف أهل القمة بسعيه فإنهم بدورهم كانوا يحرصون على أن يتضمن بيانهم الختامي الإعتراف بنهج الحسن الثاني وحنكته في تحليل التعقيدات المستحكمة في علاقات البعض من بينها ما سجلوه في بيان ختام قمة قمم الحسن الثاني الخمس (القمة العربية في الرباط أكتوبر 1974) حيث وردت فيه عبارة "عظيم التقدير لما بذله صاحب الجلالة الملك الحسن الثاني ملك المملكة المغربية من جهد صادق قبل عقد المؤتمر وأثناء إنعقاده ولرئاسة جلالته الحكيمة التي هيأت للمؤتمر التغلب على جميع الصعاب والوصول إلى قرارات تاريخية…". وما يقوله القادة المشاركون وليس من باب المجاملة فقد كان جهد الحسن الثاني كبيراً وأثمر توافقات ومن دون أن يلقى تحفظات من طرف.

وحيث أن دول العالم على موعد مع الدورة السابعة والسبعين للجمعية العمومية للأمم المتحدة بعد أيام، فإن من جملة القرارات التاريخية كان إعتماد القمة العربية السابقة زمن إنعقادها قبل 48 سنة في الرباط الأخذ بإقتراح الحسن الثاني "أن يحضر في الجمعية العمومية أثناء مناقشة قضية فلسطين صاحب الجلالة الملك الحسن الثاني ملك المملكة المغربية ورئيس مؤتمر القمة العربي السابع وصاحب الفخامة الأستاذ سليمان فرنجية رئيس الجمهورية اللبنانية ورئيس مجلس جامعة الدول العربيّة في دورتها الحالية (محمود رياض) وذلك تأكيداً للتضامن العربي في قضية فلسطين".

مناسبة هذا الاستحضار لنهج الحسن الثاني وتخريجاته في ترويض الأزمات العربية وإغتنام إنعقاد القمم العربية في ديار مملكته لتقريب ذات البين وتليين الحدة المستحكمة في العلاقات بين البعض، أن الملك محمد السادس على خطى هذا النهج. وهو إستباقاً لتعطيل القمة العربية الدورية في الجزائر وبحيث لا تُمنى بتأجيل ثان، نتيجة أزمة حادة إستحكمت في العلاقات الغربية - الجزائرية إلى جانب عدم حسم المشاركة السورية، سجل ليل الجمعة 29 يوليو/ تموز 2022 في خطاب ألقاه لمناسبة الذكرى الثالثة والعشرين لعيد العرش (عيد الجلوس) خطوة حَسَنية بمعنى أنها من إضاءات الوالد الراحل في ليالي الخلافات والعداوات العربية الظلماء، وتمثلت وبما لم يتوقع الشقيق والجار الجزائري حدوثه حيث تضمنت خطابه عبارات من نوعية تلك التي سمعناها أو قرأناها في الستينات من الشاعر المصري حافظ إبراهيم مع بعض التعديلات (هَذي يدي من بني مصر تخاطبكم فصافحوها تصافح نفسها العرب. لولا رجال تغالوا في سياستهم منا ومنهم لما لُمنا ولا عتبوا).

من جملة ما قاله الملك محمد السادس "إننا نتطلع للعمل مع الرئاسة الجزائرية لأن يضع المغرب والجزائر يداً في يد لإقامة علاقات طبيعية بين شعبيْن شقيقيْن تجمعهما روابط تاريخية وإنسانية والمصير المشترك، ونحن حريصون على الخروج من هذا الوضع وتعزيز التقارب والتواصل والتفاهم بين الشعبيْن، فالحدود التي تفرق بين الشعبيْن الشقيقيْن المغربي والجزائري لن تكون أبداً حدوداً تغلق أجواء التواصل والتفاهم بينهما. إن ما يقال عن العلاقات المغربية - الجزائرية غير معقول ويحز في النفس، وأؤكد أن أشقاءنا الجزائريين سيجدون دائماً المغرب والمغاربة دائماً إلى جانبهم في كل الظروف والأحوال...".

مثل هكذا توجه من جانب الملك محمد السادس سيقلق أطرافاً في البلدين أمعنت إتهامات وتنظيرات وتدوين أحقاد في كتاب علاقات الجيرة، لكن التوجه هذا هو ما تتطلع إليه الأكثرية من الشعبيْن في كل من الجزائر والمغرب، ذلك أن تجربة الخصام لم تحقق سوى تعميق الأزمة التي كادت لولا مبادرة الملك محمد السادس تصبح نتيجة عدم العلاج الحاسم فتنة. والفتنة أشد من القتل.

وإلى ذلك فإن الاعاصير السياسية التي تعصف بدول العالم كبيرها وصغيرها مع إختلاف الدواعي المسببة لها، باتت تفرض على الأنظمة عموماً التبصر وعدم ترك الأمور الخلافية عالقة وتقديم ما تريده الرعية من حاكمها على ما عدا ذلك من تطلعات وطموحات. وبالنسبة إلى ما يخص المغرب والجزائر فإن التطلعات في السبعينات في شأن إتحاد المغرب العربي يتقاسمها القادة الثلاثة الذين باتوا في ذمة الله مترحمين عليهم (الملك الحسن الثاني والرئيس هواري بومدين والرئيس معمَّر القذَّافي) حول مَن يترأس وأين المقر وتثبيت دورية الأمين العام هذا عدا التباين حول مسائل دفاعية وتنمية.. إن تلك التطلعات باتت من ذكريات الماضي. كما باتت من ذكريات الماضي تخريجة تم التوافق على مضض من جانب القادة الثلاثة، وهي أن يكون المقر تونس، وهي الصيغة التي بقيت تنتظر قيام الإتحاد إلى أن تحققت عندما قررت القمة العربية الإستثنائية تجميد عضوية مصر الساداتية في الجامعة العربية ونقل مقر الأمانة إلى تونس وإختيار الشاذلي القليبي أميناً عاماً للجامعة ثم إستعادت مصر ما تعتبره إرثاً قرره عموم العرب.

ولكي لا يؤثر إستحضاري كمتابع لتلك المحاولة (التي لم يُكتب لها السعي والصبر لكي تستقر فلا تُطوى مع سائر الأحلام القومية) وعلى الكثير من خفايا الإجتماعات وما حفلت به الكواليس من تباينات، على التوجه الطيب من جانب الملك محمد السادس لرأب التصدع الذي ألم بالعلاقات المغربية _ الجزائرية، فإن الذي يمكن قوله إن ظاهرة صراع القادة الثلاثة، وطموح كل منهم للتسيد طويت بإنتقالهم تباعاً إلى دنيا الآخرة، وأن هموم الزمن الحاضر يفرض على أهل الُحكم في كل من المغرب والجزائر وموريتانيا وتونس وأهل الحكومتيْن في ليبيا هي كيف تستقر الحال وينصرف الجميع إلى الأخذ بخيارات مرجأة من بينها إختبار نوايا إسرائيل التي يتضح أن حكومتها تتفاعل مع موضوع التطبيع كأنه سلعة أو صفقة كسبتها وليس مسألة مبدأ للسلام والسلامة. كما أن الهموم في جناحيْ العالم العربي مشرقاً ومغرباً هي في مداواة العثرات المتواصلة والتي كما حال دول عربية أُخرى شقيقة (لبنان وسوريا والعراق واليمنان التعيسان والسودان والفلسطينان "فلسطين رام الله" و "فلسطين غزة") تنحصر في كيف يستطيعون تأمين الحد الأدنى من مطالب الناس سبيلا لتأمين الحد المماثل في إستقرار مؤسسات الحكم.

يبقى القول إن مبادرة الملك محمد السادس تأتي في الوقت العربي البالغ الحساسية إذ أن القمة العربية الدورية المقرر إنعقادها في الجزائر يوميْ 1 و2 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022 (تزامُن الموعد مع ذكرى ثورة الجزائر ضد الإستعمار الفرنسي) لن تكون عادية في حال إنعقادها، إذ سيرى القادة على ما يجوز التمني طي صفحة تغييب سوريا وعلى نحو طي تغييب مصر سابقاً، هدياً بالخطوة الخليجية التي قضت بإستئناف دولة قطر مشاركة ومؤازرة في مجلس التعاون الخليجي. هذا إلى أن هذه القمة على موعد مع قرار حازم في ما يتعلق بتفعيل المبادرة العربية بحيث يصار إلى تخيير إسرائيل بين جدولة من تنفيذ بنود المبادرة وبما يعطي الخطوات التي تم إتخاذها على صعيد التطبيع تدعيماً لهذه المبادرة، وإلا تخيير إسرائيل بين جدولة بنود المبادرة أو تجميد تلك الخطوات التطبيعية إلى حين وضوح النوايا.

كما أن القمة العربية الدورية في الجزائر على موعد آخر يتعلق بتصويب العلاقات العربية - الإيرانية وهو تصويب من شأن مردوده إطفاء نيران كثيرة مشتعلة ومحاصرة حالات ربما تنتهي حرائق. وليس لبنان بعيداً عن هذا الإحتمال.

خلاصة القول أيضاً إن مبادرة الملك محمد السادس تجعلنا نستحضر مبادرة ملكية هي الأُخرى وكأنما المبادرات الطيبة لرأب الصدع تأتي دائماً من الملوك العرب. ونعني بتلك المبادرة وقفة الملك عبدالله بن عبدالعزيز رحمة الله عليه في القمة الإقتصادية في الكويت يوم 19 يناير/ كانون الثاني 2009 وقوله على الملأ فيما الأذى الكلامي البشَّاري الأسدي كان على أشد القذاعة في حق المملكة ومصر "إننا تجاوزْنا مرحلة الخلاف وفتحنا باب الأُخوِّة العربية والوحدة لكل العرب دون إستثناء أو تحفُّظ وإننا سنواجه بالمستقبل بإذن الله خلافاتنا صفاً واحداً كالبنيان المرصوص مستشهدين بقوله تعالى (ولا تَنازعوا فتفْشلوا وتذهب ريحكم...).

في ذات لقاء مع طارق عزيز (رحمه الله) أحد القامات الدبلوماسية العربية حول أجواء القمم العربية عموماً وبالذات التي كانت تستضيفها المملكة المغربية قال إن الملك الحسن الثاني "هو جامع الأضداد على كلمة سواء". وها هو الملك الإبن محمد السادس على الصراط المستقيم نفسه. عسى ولعل تلاقي اليد الجزائرية اليد المغربية وعلى قاعدة التحية بمثلها أو بأحسن منها من جانب الرئيس عبدالمجيد تبون خصوصاً أن الأمة تعيش تحت وطأة ما توجزه الآية الكريمة: "وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ".

فؤاد مطر