الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

تأملات في الأمثولة الجزائرية _ الفرنسية

الرجوع

أرسلت إلى صحيفة "الشرق الأوسط"
بتاريخ الإثنين 29/8/2022

في المشهد العربي حالات عصية على التفاهم الذي ليس من بداية علاج لها غير القمة العربية المأمول إنعقادها بعد أسابيع في الجزائر، كما المأمول من رئيسها جعل هذه القمة العادية الإنعقاد إستثنائية في ما تحققه على صعيد طي صفحة التناقضات في الموقف العربي وعندما يكون هذا هو المأمول فلأن الرئيس عبدالمجيد بتون بدأ بالحكمة والحنكة طي صفحة تليها صفحات من كتاب الأزمة الأشبه بالجمر تحت الرماد بين الجزائر وفرنسا، وذلك من خلال الكلام والإطلالات في العاصمة السياسية الجزائر وفي العاصمة الثقافية وهران تطلعاته إلى أن يكون من القادة التاريخيين. وتلك حالة جديدة في تاريخ أهل الحكم الفرنسي من حيث أن الإنجاز أو الحيثيات تتم في سن فتية، ما يعني أنه سيضفي المزيد على الإنجاز الذي تحقق. وهو في ذلك يأخذ المكان والمكانة إلى جانب رجل الدولة المتميز ولي عهد المملكة العربية السعودية الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز الذي بدأ خطوات الإنجازات إبتكاراً وتطويراً وهو في السن الفتية ما يعني أن ما تم إنجازه ليس نهاية الطريق ما دام الله يرعى ويمد في العمر. وبذلك فكما أن تاريخ المنطقة العربية سيضم في المستقبل ما يضيء على أهمية ما بدأه الأمير محمد تطوراً وتغييراً وضمن رؤى مستقبلية تنموية وهو في السن الفتية وهذا يعني أن ما سيضاف مستقبلاً من جانبه سيكون في السياق نفسه وبهذا سيُنظر إليه على أنه من القادة التاريخيين، فإن الرئيس الشاب ماكرون يتطلع في خطواته التي يقْدم عليها بثقة صلبة في النفس إلى أن يكون من التاريخيين ويقول الفرنسيون ومدونو الوقائع والإنجازات أنه كان النسيج المدني المشابه للنسيج العسكري المتمثل في الجنرال شارل ديغول.

لم يكن بالأمر السهل إزالة الشوائب الكثيرة في كتاب العلاقات الجزائرية _ الفرنسية. وفي إستمرار كانت حكومات فرنسية كثيرة مترددة في البدء بعملية تصحيح لأخطاء وخطايا عقود، وعندما حاول الرئيس ديغول فإن الخطوة التي خطاها كانت بمثابة إشارة إلى أن على الفرنسيين أن يصححوا. وهو كان على ما يجوز القول وقبل أن يحين الأجل كونه بات في سن الشيخوخة في صدد إتخاذ خطوة مثيلة لتلك التي خطاها الرئيس ماكرون الذي زار الجزائر، لكن ترْكه الرئاسة مرغماً وراضياً في الوقت نفسه، جعل تلك الخطوة لا تتم وكأنما هي وديعة من جانبه متروكة للرئيس الشاب الذي وظفها كلاماً قاله للجزائريين وإقراراً ضمنياً بدور فرنسيي الماضي ليس من مصلحة فرنسيي الحاضر والمستقبل بقاءه بمثابة ندبة في تاريخهم.

ربما كانت ورقة النفط والغاز من بين دوافع الرئيس ماكرون للقيام بالخطوة التي خطاها وأثمرت التوافق على شراكة متجددة وقد بدأ التعتيم يتراجع أمام الوضوح والصراحة. ورغم أن التعريب أخذ مداه البعيد إلا أن تبادل كلمات الترحيب بالفرنسية التي هي اللغة الثانية نطقاً للجزائريين والتي خاطب بها الرئيس عبدالمجيد تبون ضيفه ومن دون حاجة إلى مَن يترجم أحياناً كلمات تنقصها الدقة والبلاغة فتتسبب في حدوث جفوة.. إن كلمات الترحيب التي تبادلها الرئيسان إضافة إلى التصافح كان عناقاً وليس فقط تحية عادية باليد، تعكس إنطباعاً بأن كلاً من الجانبيْن الجزائري والفرنسي على حد سواء يريدان وصلاً بأجواء من صفاء العلاقة فلا يعود الحذر ورقة تستعملها أوساط فرنسية متشنجة وعلى درجة عالية من إتساع رقعة الإنتشار الجزائري في وطنهم كما حال الإنتشار السوري بعد الفلسطيني في لبنان على سبيل المثال لا الحصر. ومن الطبيعي بعد ترجمة ما إصطفاه الرئيسان تبون وماكرون كأجواء لتأسيس علاقة جديدة وبالذات في ما يتعلق بالذاكرة والألم الدائم الحضور في نفس الجزائري عن إحتلال فرنسي دام قرناً وربع القرن ولا من يعتذر عنه بعد الإستقلال الذي بات في الستين عمراً، أن يبدأ الصفاء يشق إنتشاره في النفوس، مع الأخذ في الإعتبار أن الاحتلال الفرنسي للجزائر أنجز نبيذاً وحاصر لغة وشعائر وأبعد الجزائر العريقة عن عروبتها وحاول أن يقونن أن الجزائريين ليسوا أمة وذات خصوصية. وتلك في أي حال مفاهيم مَن يحتل بلاد غيره. كما هذا ما بدأته الولايات المتحدة في العراق وقوبل بالصد المماثل للصد الجديد للنظام الإيراني الذي على ما يبدو يتطلع إلى حرب معاكسة فيه أو عليه إذا إستقوى نووياً رداً على الحرب الصدَّامية عليه، وهذا في حال أخفقت أذرعه الميليشياوية والولائية في كسر شوكة الوثبة الصدرية وأي حراك عروبي.

ما تحقق للجزائر وفرنسا معاً في زيارة ماكرون دليل على أن الأزمات مهما تعقدت لا تحلها سوى خطوة تتسم بالجرأة والحنكة وتنطلق في ضوء رؤية وطنية تأخذ في الإعتبار مستقبل الأجيال المتتالية وطمأنينة الأجيال الحاضرة التي أضنتها الصراعات والحروب.

وعندما تستمر الأزمة في كل من لبنان وسوريا والعراق وليبيا واليمن على نحو ما هي جولات وصولات أطرافها يتأكد مدى ما تفعله هذه في النفوس ويتسع مدى القلق إلى درجة الخوف لدى الناس على الحاضر كما على المستقبل، فلأن الساحات في هذه الدول متخمة بالمراهنين والمتلاعبين وخالية من المؤمنين بالوطن الحريصين على مستقبل الأجيال.

وقد نجد مَن يقول إن هنالك نسبة من أوجه التشابه لدى كل من الجزائر ولبنان إزاء فرنسا، مع فارق أن الدور الفرنسي في لبنان كان إنتداباً ولبضع سنوات فيما هو في الجزائر إحتلال مورست خلال سنواته ما إنتهى إلى أنه زرع عداوة تأصلت في النفوس، وهذا أوجب على الرئيس الشاب ماكرون الخطو على نحو ما أقدم عليه والذي أثمر سعيه أن الجزائر في شخص رئيسها الوازن للأثقال المتوارثة والمتوازن في التعامل معها لاقى زائره الذي ليس من جيل الاحتلال وإنما من جيل الثلث الأول من عمر إستقلال الجزائر (الإستقلال عام 1962 وماكرون من مواليد1977) بترحاب مَن يريد هو الآخر مسح بقايا الغبار على صفحات كتاب بأمل التدوين في كتاب جديد من شريكين في بناء علاقة إستنسب الرئيسان إعتبارها "متجددة" درءاً لما تعنيه كلمة جديدة من أن لا علاقة طيبة قبل ذلك وإن بنسبة مِن ودّ المشاعر. وأما بالنسبة إلى سعي ماكرون في لبنان الذي له في ذمة فرنسا حقوق الاهتمام والرعاية والتفقد عندما تصيبه مصيبة، فإن الرئيس الفرنسي أدى مسعى يفوق من حيث الحرص على نجاح مسعاه لوضع الأزمة الروسية _ الأوكرانية في مدار البحث عن تسوية. لكن ما لاقاه من أهل السلطة في لبنان كان كالذي لاقاه من الرئيس بوتين حيث عناد الرئيس الروسي توأم عناد الرئيس ميشال عون، كلاهما يخشى أن يأخذ بالتفهم فتتم بعد ذلك محاسبته على ما فعل وعلى ما ألحق حكمه من ويلات عون للوطن اللبناني وبوتين للوطن الأوكراني حرباً ولأوطان كثيرة إحتمال تجويع.

في أي حال وبما يعني الأحوال المتهالكة في أمتنا يتطلع أبناء الأمة عموماً والشعب في كل من الدول التي تحولت إلى ساحات إقتتال لا جدوى منه، إلى أن يتأمل أطراف الصراع السياسي الذي تحول إلى مواجهات تبدو وكأنها حرب بين عدويْن هما من البلد الواحد، في الأمثولة الجزائرية _ الفرنسية وكيف أنه بالحكمة والحنكة والحرص على الأوطان كيانات وشعوباً يمكن أن يتحقق الوفاق ويحل محل البغضاء، وبذلك لا يعود هناك أي مبرر للصراعات والعداوات والإقتتال.. بل حتى كما الحال في العراق وسوريا ولبنان وليبيا واليمن لا يعود هنالك أي مبرر لوجود سلاح خارج جيش البلاد.. ولا إنتماء لوطن غير الوطن الأم.. ولا راية سوى راية الوطن. والله الهادي إلى حُسن التبصر وتصحيح المواقف الدنيوية إستباقاً لحساب الآخرة.

فؤاد مطر