الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

"أم الدورات الأممية".. والتي بعدها

الرجوع

نشرت في صحيفة "الشرق الأوسط"
بتاريخ الثلاثاء 16/8/2022

إقترب موعد إنعقاد "أم الدورات الأممية".. الدورة السنوية العادية للجمعية العمومية للأمم المتحدة، وبدأ الرحال من جانب المئة وأربع وتسعين دولة الأعضاء في منظمة كل العالم، للمشاركة في أعمال الدورة التي شهرا إنعقادها سبتمبر/أيلول وأكتوبر/تشرين الأول.

جرت العادة أن تكون المشاركة تكون من الرجل الأول في الدولة أو نائبه أو وزير خارجيته. المسألة هنا إستثنائية وتبعاً لظروف وضرورات. وهنالك رؤساء كانوا ينتظرون بشوق إنعقاد الدورة لكي يشاركوا شخصياً حيث أن المشاركة تتيح لهم الإلتقاء برؤساء لا يتزاورون معهم وتقتضي المصلحة بأن يتم التلاقي بهم وما يتبع هذا التلاقي في رحاب المنظمة الأممية من تفاهمات أو تصفية معاتبات أو الإتفاق على إبرام صفقات. كما ثمة بعض حكام يعنيهم كثيراً إلقاء كلمة من على منبر المنظمة الأممية تفيدهم داخلياً وتساعد في إدراج قضايا بلادهم خارجياً وبين هذا الداعي وذاك هنالك قادة ينتظرون بفارغ الصبر مناسبة إنعقاد الدورة العادية للجمعية العمومية للأمم المتحدة لكي يقولوا من على المنبر ما في الخاطر من أفكار أو في الصدر من إحتقان. ولنا على سبيل المثال لا الحصر وقفات كلامية كثيرة الحدة من جانب الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف والرئيس الليبي معمر القذَّافي والرئيس الفلسطيني ياسر عرفات.

في أي حال أبهجت القادة الثلاثة الوقفة والكلام الذي قيل، إلا أنها لم تحقق المبتغى وبقيت المفردات مندرجة ضمن صفحات المواقف التي تعكس جوانب من فرادة الفكر السياسي لدى نماذج من أهل الحكم.

هذه الدورة الآتي إنعقادها، تبقى الأكثر أهمية في سجل دورات الجمعية العمومية. وإستباق تصنيفها بأنها "أم الدورات الأممية" على أساس أن مردود ما بعد إلتئام الشمل المشارك من قادة أو من يمثلهم ليس كما نتاج الدورات السابقة. فالعالم الآن من القطب إلى القطب على مشارف صواعق قد تنتهي حروباً من أجْل تثبيت الشأن الدولي أو من أجْل قطع الطريق على المجاعة. وقبل أن تبدأ روسيا بوتين حربها ضد أوكرانيا كان هنالك إنشغال بال دولي بالمناخ ثم بالجانحة الكورونية التي ما زالت هاجساً لدى الحكومات والشعوب على حد سواء. وعلى هامش هذا الإنشغال محاولات لرتق الثوب الدولي من خلال تصحيح مسار صراعات معلَّقة الحسم من نوع الصراع العربي _ الإسرائيلي والذي لم تثمر خطوات نوعية عربية على طريق التطبيع في ترويض إسرائيل بحيث تنهج مسار الدولة التي تجاور دولة فلسطين ويطوي الطرفان الإسرائيلي بجناحيْه الصهيوني الحاقد واليهودي التائه، والفلسطيني الحائر المتعدد المشارب الثورية بتعدد الطبعات، العقود السبعة الحافلة بالعدوان والمباشرة بالعيش على قاعدة ما للفلسطينيين لهم وما لليهود لهم وبذلك تطمئن النفوس العربية ولا يعود هنالك مبرر لإستعمال الموضوع الفلسطيني ورقة إيرانية يدفع الطيف الغزاوي من الشعب الفلسطيني الثمن بشراً وحجراً، ويوظفها الطيف الإيراني في لبنان متمثلاً ﺒ "حزب الله" تعقيداً إثر تعقيد للأحوال.

بعد أن أشعل بوتين ناراً في أوكرانيا إفترض وهو القابض على سلاحيْن بأهمية السلاح النووي، وهما سلاح الغاز والغذاء قمحاً وسائر أنواع الحبوب، أن الأمور لن تتطور وأن كبيرات دول العالم وكذلك الدول التي تحلق في فضائها ستسارع الخطى السياسية بعد الإكثار من التمنيات، لكي تستدرك روسيا ما بدأته ويصغي رئيسها لما هو من الواجب الإنساني الإصغاء إليه والأخذ به. لكن عناده من جهة وملاقاة الغرب الأطلسي بعناد مقابل جعل السيناريو البوتيني يتعثر ويتحول بوتين من حاكم يبغي بالتخويف محاولة إستعادة دولة إستقلت عن الإتحاد السوفياتي، أو في الحد الأدنى تحييدها بحيث لا تكون أطلسية تناصب روسيا التحدي وربما مع الوقت تهيئتها لتكون إفتراضاً نقطة إنطلاق لغزوة أطلسية لروسيا بنكهة نابوليونية.

وهكذا إستقرت الحال على تأرجح أفرز مخاوف، وتطورت الحرب لأن التحدي على مستوى أهل القمة إستمر يتقدم على مساع خجولة للتهدئة وتحت صيغة حفظ ماء الوجه وبحيث أن ما كان يُفترض حسمه في أسابيع ها هو يتنقل من شهر إلى آخر. وبات الرهان البوتيني مأزقاً لا تنفع فيه المساعي الثنائية أردوغانية كانت أم ماكرونية، كما لا تُقدم كثيراً تلك القمة التي إستضافها المرشد خامنئي في طهران يوم الثلاثاء 19 يوليو/تموز 2022 رداً بالغ السرعة والتوقيت بحيث أن الإنعقاد تم بعد ثلاثة أيام من إنعقاد القمة العربية _ الأميركية في جدة (السبت 16 يوليو) وتميزت بإعادة الرئيس بايدن القراءة في رؤيته وفي سيناريو رهاناته، وكانت صورة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ممسكاً بقبضة يده اليمنى بيد الرئيس أردوغان وبقبضته اليد اليسرى بيد الرئيس بوتين وهو مبتسم بينما كل من الرئيس التركي والروسي مقطبيْ القسمات، من نوع اللقطات التي برسم التسويق الداخلي ولدى الأطياف العربية المرفرفة في الفضاء الإيراني وتحديداً "حزب الله" في لبنان والجزء الحوثي في اليمن وكذلك الجزء الجهادي _ الحمساوي من الصف الفلسطيني. ومع هؤلاء هنالك الأطياف العراقية التي ما زالت على الرفرفة نفسها. كما أن الصورة نفسها كانت رداً على الصورة التذكارية التسجيلية البعيدة عن الإفتعال للقادة العرب المرتاحي التعبير يتوسطهم الرئيس بايدن وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز وكلاهما ممسك الكفين فيما الآخرون رئيس وزراء العراق مصطفى الكاظمي وولي عهد الكويت الشيخ مشعل الأحمد الجابر الصباح وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني وملك الأردن عبدالله بن الحسين (إلى يسار الأمير محمد بن سلمان). أما إلى يمين الرئيس الأميركي فإنهم ملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة والرئيس المصري عبدالفتاح السيسي ورئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ورئيس وزراء سلطنة عمان أسعد بن طارق آل سعيد.

وهؤلاء لم يعقدوا قمة رد فعل، ذلك أن القمة متفق عليها وعلى جدول أعمالها. ومن أجل ذلك إنتهت قمة عمل لترويض معضلات تحتاج إلى عين عربية _ أميركية بصيرة تعزز دور اليد القصيرة الفعل أو التفعيل المرجأ إلى أحيان من جانب الإدارة الأميركية.

هاتان القمتان.. قمة الفعل في جدة التي كانت قبضتا اليد الترحيبية بالرئيس الأميركي ذات مفعول أكثر من قبضتيْ يديْ الرئيس الإيراني بيمنى يد الرئيس بوتين وبيسرى يد الرئيس أردوغان، ربما نلحظ لهما مفاعيل عند إنعقاد الدورة السابعة والسبعين للجمعية العمومية للأمم المتحدة والتي تفرض التطورات التي تعيشها دول العالم كبيراتها وصغيراتها على حد سواء وكل دولة في إطار ما يتعلق بالدور والتصرف، أن يشارك فيها الجميع على مستوى القادة الرؤساء وليس مَن ينوب عنهم. وإذا كانت الدورة الماضية (السادسة والسبعون) لم تشهد هذا المستوى من الحضور حيث إقتصر على مئة رئيس دولة وإثنين وخمسين رئيس حكومة وأربعة وثلاثين وزير خارجية، ربما لأن إحجام سائر الرؤساء عن المشاركة على أساس أن الموضوع الأساسي للدورة هو "بناء القدرة على الصمود بالأمل للتعافي من جانحة كورونا وإعادة بناء الإستدامة والإستجابة لإحتياجات الكوكب وإحترام حقوق الإنسان وتنشيط الأمم المتحدة"، فإن الدورة السابعة والسبعين تستوجب مشاركة على مستوى القمة، إلاَّ في حالات بالغة الإستثناء. وتستوجب حضوراً ليس بغرض إلقاء كلمة أو خطبة من خلال المنبر الأممي، وإنما المشاركة بنية السعي لتوافق الكبار مع بعضهم البعض على درء مخاطر الحروب التي لا تكتفي بما فعله بوتين بأوكرانيا وإسرائيل وقطاع غزة ومدن وبلدات في السلطة الوطنية الفلسطينية وما سبق أن فعلته الحرب الأميركية بوشاً بعد بوش بالعراق وبما تفعله إيران مباشرة أو من خلال ميليشياتها في اليمن وكذلك ما تفعله تركيا أردوغان إلى جانب روسيا بوتين وإيران خامنئي بسوريا، وإنما ستفرز حروب الكبار جولات من الحروب الأهلية في دول كثيرة لعل الظاهر منها في المشهد الراهن ليبيا والعراق والسودان ولبنان.

وثمة فوارق كثيرة بين أن يجتمع على هامش الدورة السابعة والسبعين رؤساء روسيا والصين والهند وتركيا وإيران وفرنسا وبريطانيا وألمانيا مع رئيس أميركا وسائر الرؤساء المبتلين بأزمات وصراعات ناشئة عن إشتهاءات روسية وأميركية وصينية وإيرانية لوضع اليد على أراضي آخرين، وأن تنعقد الدورة في غياب هؤلاء أو بعضهم كما ثمة فوارق كبيرة بين أن يقف رئيس الدولة شخصياً يلقي كلمة وتحوي مطلباً أو تسجل موقفاً، وبين أن تُبث هذه الكلمة المسجلة عبر فيديو، أو يلقي الكلمة من يمثله.. وهذا ليس مضموناً بقاءه وزيراً للخارجية على سبيل المثال.

الدورة السابعة والسبعون هي في واقع الحال إفتراضاً دورة الكوكب المرتعش وشعوب دوله من القطب إلى القطب الخائفة من كوارث الصراعات والحروب. ولعلها تؤسس لدورة حاسمة لا تكتفي ببلسمة الجراح وترويض النفوس وترميم الخراب وإنما لبناء صروح من العيش الهادىء والتنمية وتصفير الأسباب والمشاريع والعقائد والفتاوى والتهيؤات والسير على طريق الهداية وإعتماد جوهر "وأما بنعمة ربك فحدث" بدل التباهي بتدمير هذه النعمة. وقياساً بروحية قمم عربية _ إسلامية _ دولية على مدى خمس سنوات دون كلل أنتجت إستضافة المملكة العربية السعودية لها ملامح خير في العلاقات الدولية والرؤى التنموية التي يثابر على إنجاحها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رمز جيل الأحفاد في المملكة وعلى نحو ما يتمنى وجاهد وأسس جده الملك عبدالعزيز، فإن إستضافة دورة أممية وبالذات الدورة الثامنة والسبعون للجمعية العمومية للأمم المتحدة في المملكة وبمشاركة المئة وأربعة وتسعين رئيس دولة دون إستثناء تبدو تجربة تستحق الأخذ بها. ومثل هذا الإنعقاد ليس مستغرباً. فإنعقاد الدورة ليس فرضاً إنعقادها في نيويورك وإنما حيث هنالك ظروف تحقق لها النجاح. هذا فضلاً عن أن الإنعقاد الأول للجمعية العامة للأمم المتحدة تم قبل خمسة وسبعين سنة في لندن وبمشاركة 51 دولة كما أن الدورة الثالثة (بعد الثانية في نيويورك) عُقدت في باريس ليتم الإنعقاد السنوي تثبيتاً في مقر المنظمة الدولية في نيويورك.

ونحن عندما نرى أن فرضية الدورة الثامنة والسبعين في جدة أو الرياض أو العلا فلأن مثل هذا الإنعقاد ينهي تحفظات كثيرة ويحقق إنجازات أكثر، فضلاً عن أن التحفظات أوجبت قبل أربع وثلاثين سنة وبدافع وضرورة أن يلقي الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات كلمة لا يجاز أو يتاح له توجيهها من على منبر منظمة الأمم المتحدة من نيويورك، تم التوافق على عقد دورة في مقر الأمم المتحدة في جنيف (ديسمبر/كانون الأول 1988) وألقى عرفات كلمته التي مع الأسف ما زال التفاعل الأممي فاتراً مع روحيتها التسالمية والعقلانية والتي يسرت أمر المبادرة العربية للسلام.

لعل السابعة والسبعين التي بدأ شد الرحال لها تضفي جدية على المنظمة التي هي للأمم شكلاً وللكبار واقعاً. وهذا ما تتطلع الشعوب إلى تبدل نوعي في الرؤية وفي العمل. كما لعل الدورة السابعة والسبعين التي تبدأ بعد أيام تكون بالفعل "أم الدورات الأممية" وتؤسس للدورة الدورة الثامنة والسبعين التي نطمح إلى أن نشهد إنعقادها في السعودية. والله المعين... والمنجي.

فؤاد مطر