الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

وداعيتان وإستقبالان في زمن لبنان الدولتيْن

الرجوع

نُشرت في صحيفة "الشرق الأوسط"
بتاريخ الثلاثاء 9/8/2022

إعتاد عدد من السفراء العرب والأجانب الذين يعملون في لبنان على أن يكون ختام سنواتهم رسالة وداعية تجمع بين الإعجاب بالبلد طبيعة وطعاماً وتنتهي بالتمنيات الطيبة. ويخرج أحياناً بعض هؤلاء عن النسق التقليدي حيث يضيفون في رسائلهم الوداعية ما يحمل في طيات الكلام نوعاً من النقد المحبب والنصح مع لمسة من التحذير.

وحدهما دون سائر السفراء غادرا لبنان وفي القلب تعاطف لا مثيل له حيث لم تقتصر وداعية كل منهما على عبارات حادبة وتمنيات تقليدية، وإنما بقيا وهما في إغترابهما عنه مشغولي البال بكلام المحبين شعراً من الدكتور عبدالعزيز خوجة ونثراً من الدكتور علي عسيري، وكلاهما شغلا منصب سفير المملكة العربية السعودية في زمن كان أهل السياسة والحزبية في لبنان لا يدرون أي إساءة تلحقها أهواءهم بالوطن وتلك مصيبة أو يدرون وفي هذه الحال المصيبة أعظم. أعان الله السفير الحالي وليد البخاري الساعي بقدر المستطاع لإحلال السكينة في النفوس على أمل أن تحل الكلمة الطيبة محل المفردات التي تتعارض والقول الكريم "ألا بذكر الله تطمئن القلوب".

في زمن لبنان الدولتيْن كانت هنالك وداعيتان تعكس كل واحدة منهما نظرة السفير الأجنبي عندما يكون ممثلاً لبلاده في الدولة اللبنانية الرسمية ذات الميثاق والدستور والمعترف بها دولياً والتي لها حيز في صياغة ميثاق الأمم المتحدة (هذا بالنسبة إلى سفير بريطانيا ايان كولارد)، ونظرة السفير الأجنبي والأخوي وهو هنا تحديداً سفير الجمهورية الإسلامية الإيرانية الدكتور محمد جلال فيروزنيا لدى الدولة اللبنانية بجناحيْها: جناح الدولة الرسمية التي تتبادل معها العلاقات الدبلوماسية وتختار في إستمرار سفيراً له باعه وشأنه لكي يمثلها. وجناح الدولة التي هي من حيث الإرتباط والولاء المطلق للنظام الذي أرسله، ونعني بذلك "دولة لبنان حزب الله".

في الرسالتيْن الوداعيتيْن والموجهتيْن في فترة زمنية متقاربة (أقل من شهر) نقرأ في الوداعية البريطانية قول السفير كولارد "إنني حزين لترك لبنان بلدكم الجميل بمناظره الطبيعية الخلابة والتعمق في تاريخكم الأثري وتذوق طعامكم اللذيذ ومقابلة الكثير منكم في رحلاتي من الشمال إلى الجنوب والبقاع والترحيب بي بأذرع مفتوحة ومشاركة معي ثقافتكم ومشورتكم وحكمتكم...".

لكن ماذا عن الموقف السياسي، بمعنى كيف ترى بريطانيا العظمى لبنان الذي عندما أزف الرحيل بات الوطن الصغير بالكاد يتنفس. يقول السفير "إن لبنان قد يكون صغيراً لكنه مكتمل التكوين من نواح عدة ويتمتع بالعديد من المقومات الضرورية للنجاح. والإصلاح اليوم هو المفتاح لحل مشاكل كل لبنان الإقتصادية. الآن ليس وقت السياسة". ثم من باب التركيز كي لا يقال إن فرنسا وحدها كانت "أماً حنوناً" بالفعل وأكثر كرماً على لبنان المثخن بجراح ناشئة عن السياسيين والحزبيين والحُكم بمثلثه الرئاسي وبشريكه الفاعل في إتخاذ المواقف وإلى درجة أن حال لبنان مثل حال العراق عندما كان فيصل الثاني ملكاً لا قدرة له على إتخاذ القرار فيما الأمير عبدالإله وصياً بدرجة ملك كامل الصلاحية وأما الحليف القوي الشأن الأمين العام ﻟ "حزب الله" السيد حسن نصرالله فإن حاله من حيث الشأن والإقتدار مثل حالة الأمير عبدالإله. ولا عجب أن النظام العراقي الملكي سقط بضرية قاضية من بضعة ضباط يقودهم عبدالكريم قاسم في مثل هذا الشهر من العام 1958.

يقول السفير البريطاني "إن أولويات المملكة المتحدة واضحة، وأن الحكومة البريطانية ملتزمة بدعم إستقرار لبنان وأمنه". كما يستحضر قول الملكة اليزابيت الثانية "إن لبنان كان رمزاً للتنوع والتسامح والصمود ونأمل في إستمرار أواصر الصداقة القوية بين بلدينا لسنوات عديدة". وربطاً من جانبه بما تراه الملكة التي في رحاب تاجها لقي اللبنانيون المستقيمو التصرف أمنياً وضرائبياً تعاطفاً وتسهيلات وتأميناً صحياً شاملاً الدواء المفقود في بلادهم، يضيف السفير "واليوم عند مغادرتي لبنان بصفتي سفير جلالة الملكة أشاطرها طموحها، وأنا فخور بأننا المملكة المتحدة، نواصل أداء دورنا كصديق ثابت لكم. صديق للشعب اللبناني".

تلك كانت إضاءة على وداعية سفير أجنبي لم يؤذ نظام بلاده لبنان ووقف إلى جانبه في حدود محسوبة بدقة خلال أزماته وصراعاته وحروبه الأهلية ومنها الأزمة المتواصلة، والتي كان سيبدأ العلاج لها لو أن رؤوس النظام حذت حذو الرئيس البريطاني بوريس جونسون، علمْاً أن ما إقترفه من تجاوزات ليس وزراً كما الأوزار المتراكمة لدى أطياف النظام اللبناني، الحالي منه بشكل خاص.

وأما وداعية السفير الإيراني الدكتور محمد جلال فيروزنيا فإنها تعكس كنه نظريته التي هي من نظرة الجمهورية الإيرانية للبنان. وبعض مفردات وداعيته دليل على ذلك حيث يقول "إن العمل في لبنان له نكهة مختلفة عن العمل الدبلوماسي في أي بلد من بلدان العالم. فمن الناحية الوجدانية يشعر المرء أنه في وطنه الثاني نظراً للمحبة التي يشعر أنه محاط بها سواء على مستوى التعاطي مع أبناء هذا الشعب الشريف أو من خلال التواصل مع معظم النُخب السياسية والفكرية والثقافية والإجتماعية وتنوع المرجعيات السياسية والروحية والأحزاب على إختلاف مشاربها وتوجيهاتها وإنتماءاتها...".

ولا تشمل وداعية السفير الإيراني النصح والتمنيات، وهذا لأنه يمثل دولة هي من خلال "حزب الله" لا توكل إلى السفير الذي تختاره مهمة إسداء النصح وإبلاغ التوجيهات والمطالب، عدا السفير الذي يتم تعيينه في دمشق ويكون صاحب دور كما الدور الذي أداه في لبنان كل مِن غازي كنعان ورستم غزالي للنظام الأسدي أباً ثم إبناً، ولم يكن مجرد شاغل وظيفة أمنية رفيعة الشأن نسبياً.

لم يتسن للسفير العراقي(الإيراني الهوى) حيدر البراك أن تكون له وداعية، ذلك أنه تعجل في إظهار هواه الثوري الإيراني زائداً الشعور أن لبنان حزب الله يتيح له التعبير عن ذلك الهوى غير آخذ في الإعتبار أي حساسية أو مقتضيات، فقام بزيارة إلى منطقة شيعية في لبنان البقاع أبهجه المناخ الثوري الإيراني الهوى المتأصل في نفوس محازبي الطيف الشيعي بجناحيْه (حزب الله وحركة أمل) فأمسك بالرشاش وأطلق بضع قذائف لم يتصور بعدما باتت مادة على وسائل التواصل الاجتماعي أنها ستجعل مرجعه وزير الخارجية العراقية فؤاد حسين يصدر قراراً بنقله من مقر عمله سفيراً لدى لبنان إلى مقر لن يكون قادراً فيه على إستعمال رشاش. على نفسها جنت عدم دبلوماسيته الذي منصبه رمز للعمل الدبلوماسي.

وعلى قاعدة الشيء بالشيء يُذكر كما يقارَن تشبيهاً، فإن مقابل الوداعيتيْن اللتيْن أضأنا عليهما هنالك إستقبالان يحتار المراقب مثل حالنا في المسارب والمسالك التي إتسم كل منهما به. ومن المصادفة اللافتة أن فلسطين هي مرجع الإستقباليْن. إستقبال من جانب دولة "حزب الله" لزعيم "حركة حماس" إسماعيل هنية الآتي من "دولة غزة" في مهمة وليس في زيارة رسمية من الدولة اللبنانية. وقد لقي بدءاً من المطار وحتى القصرين قصر الرئاسة الأولى ثم الرئاسة الثانية، تليها سراي الرئاسة الثالثة غير الثابتة والمستقرة إستقبالاً بالغ التميز، ولسان حال الداعين والمستقبلين "يا ضيفنا لو زرتنا... لوجدتْنا نحن الضيوف وأنت رب المنزل".

وأما الإستقبال الثاني للآتي من فلسطين المطران موسى الحاج فلم يكن فقط غير رسمي على مركز الحدود البرية مع فلسطين المحتلة وإنما كان، إذا لم يتم إحتواء الموقف وتكميم التصريحات، إستقبالاً أشبه بجمرة تلقى على أكوام شجرة الأحوال اللبنانية التي كانت وارفة وباتت أغصاناً متيبسة. ولقد إنطبق على نوعية الإستقبال وإجراءته الأمنية والقضائية مطلع الأغنية الشعبية "شو جابك عاديرتنا" أي لماذا أتيت إلى ديارنا من إسرائيل!

عسى ولعل لا تكون خواتيم واقعة التصرف المنقوصة بُعد النظر ما قد يشعل البيت ناراً على نحو ما أشعلت جمرة إبعاد الخميني من ملاذ لجوئه النجفي إلى فرنسا بعد رفض دولة الكويت إستقباله نار الحرب الإيرانية _ العراقية ومغادرة قائد الثورة والحرب (الإمام الخميني) الحياة مصطحباً في نفسه الغضب على صدَّام وعراقه البعثي الذي أبعده... وكل مَن آزره قولاً وفعلاً.

فؤاد مطر