الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

بوليصة نصرالله.. ووصفة سريلانكا

الرجوع

نُشرت في صحيفة "الشرق الأوسط"
بتاريخ الإثنين 18 يوليو/تموز 2022

تُحسب للبنانيين ظاهرة ترجمة الإحتقان من شدة سوء الحال والغضب على أهل الحكم إلى فعل تغيير. ومنذ أن أثمر حشدهم غير المسبوق في قلب عاصمتهم (ساحة شهداء لبنان حقبة الحكم العثماني) تعبيراً عن غضبهم على عملية إغتيال غير مسبوقة درجة الحقد فيها لزعيم أمكنه جمع الأشمال الطوائفية على طريق إعادة بناء لبنان متجدد، عائداً بالغ الأهمية، فإن أنظار الشعوب الغاضبة وبالذات الطبقات المحرومة المحكومة من طبقات حارمة كانت شاخصة على الحراك اللبناني ويحاول الغاضبون تقليد اللبنانيين في ما فعلوه.

لقد أثمر الحراك اللبناني خروجاً للوجود العسكري السوري في لبنان وباتت مفردات السيادة تحل محل مفردات الوصاية والقرار المصادر. لكن توظيف ذلك الحراك كان نقيض ما هو المأمول منه. فقد إضطربت أحوال لبنان من جديد. تم إخراج الوجود الأمني السوري من الباب ليدخل الوجود الإيراني _ السوري من النوافذ. ونتيجة للتناقضات التي أحدثها هذا الدخول وما إستتبعه من تحالفات تبعث الإستغراب في النفوس كون أبرزها المتمثل بتحالف "حزب الله" مع التيار الحزبي الذي يتزعمه الجنرال ميشال عون ليس مسبوقاً، خصوصاً أن هذا التحالف أثمر إنقساماً في عمق الطائفة المارونية التي حصتها بموجب الدستور رئاسة الجمهورية. وبعدما كانت مرجعية هذه الطائفة أي بطريركها هو الشريك الثالث في إختيار مَن يكون رئيس جمهورية لبنان، إلى جانب الشريك الثاني (الإدارة الأميركية) والشريك الثالث (الطائفة السُنية) فإن تحالف "حزب الله" _ التيار العوني أحدث ما يشبه التقويض لهذه المعادلة، فبات رئيس الجمهورية، بعد التهميش السُني، من حصة النظام الإيراني متمثلاً ﺒ "حزب الله" والنظام البشاري متمثلاً بولاءات شيعية ومارونية لرموزها حضور في الطائفتين. وتشكل تجربة ترئيس الجنرال عون أول إختبار للمعادلة المشار إليها.

تحت وطأة الأوضاع المعيشية الصعبة والإنحدار المتدرج في الأحوال اللبنانية، وما كثر الكلام في شأن الفساد وإستشراء المحسوبيات، ثم ما بدأ يقال عن زلزال مالي على أهبة الحدوث، إستعاد اللبنانيون حراكهم الغاضب الأول وتلازمت مع الجولة الجديدة من الحراك مفردة جديدة في قاموس الغضب هي "عبارة كلن يعني كلن" أي بالتعبير الفصحوي جميع الذين في الحكم والزعماء السياسيين والحزبيين دون إستثناء من الذين على رأس السُلطة في الدولة إلى سائر الحلقات نزولاً.

كان مدعاة للإستغراب أن الحراك الثاني لم يؤت نتائج مرجوة. ما هو سيء إزداد سوءاً. وما بقي من الخيرات جرى نهبه. ونسي الناس أمام مذلة العيش من دون الكهرباء ومستلزمات أبسط مطالب ديمومة الحياة من الوقود إلى الدواء إلى الرغيف، الخشية من مخاطر الإصابة ﺒ "كورونا". وعندما زلزلت المصارف زلزالها وبات المتوفر من المال المودع في هذه المصارف للإنفاق في الحالات الطارئة وفي مرحلة الشيخوخة، في مهب الريح إلى أن تحدث أعجوبة ما، فإن الحراك المأمول حدوثه لم يشق طريقه إلى نقطة الحسم الذي لا بد منه مع الحكم بكل رموزه أو ببعض من إكتملت النظرة إلى أنهم هم العلة وأن الحسم معهم لا بد منه.

ربما التنوع المذهبي وطغيان الوجود المؤثر من جانب دول خطوطها سالكة في المجتمع اللبناني هما السبب في أن الحراك الشعبي إستمر متقطعاً وبالتالي لم يثمر على نحو ما حصل للحراك الشعبي في مصر الذي أسقط بصرخة "الشعب يريد إسقاط النظام" المدوية نظام ربع قرن من الحكم. وربما أيضاً أن الحراك الشعبي لم يثمر في لبنان لأن الجيش بقي يراقب لا يتدخل وعلى نحو ما حصل في مصر عندما حسم المشير طتطاوي الأمر، ممهداً السبيل أمام الجنرال المقدام عبدالفتاح السيسي رمز الحسم الأهم الذي أثمرت خطوته العسكرية رئاسة مصر الحالية.

كما ربما إن فوضى التناقضات الحزبية في السودان الذي إقتبست جماهير الغضب فيه حراكها مما جرى في لبنان ثم في مصر هي أيضاً السبب في أن الحراكيْن اللبناني المتجدد والسوداني المقتبس والمتردد ما أن يحدثا حتى تذبل الإندفاعة لدى كل منهما.

وما يجعلنا نستحضر ظاهرة الحراك اللبناني ومروراً على حراك مصري تلاه حراك سوداني حدثا بإقتباس وإن بدرجة متفاوتة من الذي قام به اللبنانيون ولم يكملوه، هو أن الأحوال في كل من لبنان والسودان سائرة نحو ما ربما يتجاوز التظاهر إلى الإقتتال. ولقد ألمح إلى ذلك الأمين العام ﻠ "حزب الله" حسن نصرالله في إطلالة تلفزيونية مساء يوم الأربعاء (19 يوليو/تموز 2022). وليس مستبعَداً أن تكون الوصفة السريلانكية هي الدافع أو نسبة من الدافع إلى ما قاله. فالذي فعله الغاضبون في سريلانكا يمكن أن يفعله اللبنانيون، خصوصاً أنهم سبق أن أوحوا من خلال إقتحام جلسات طعام وشراب لمسؤولين في مطاعم بالرغبة إلى إقتراف فعل مشابه للفعل السريلانكي. وهم إذا كانوا يترددون في الإقدام على ذلك فربما تحسباً من عوائد بوليصة التأمين على السلامة الممنوحة من "حزب الله" للعمود الثالث في تركيبة النظام اللبناني من ست سنوات. وبفضل هذه البوليصة أمضى الحكم سنواته الست لا يخشى تعكير صفوه ولا تقليص فترة بقائه حتى اليوم الأخير. لكن أحياناً تجري الأمور بما لا يشتهي ساكن القصر وصاحب بوليصة التأمين على كل ما تستوجبه مقتضيات بقاء الحكم وعدم الإخلال بما هو متفق عليه. وإذا تبدل مجرى الرياح في حال تجديد بوليصة التأمين على ولاية ثانية لو سنتين إضافيتين أو توريث على قاعدة لا بد من الذي لا بد منه، فقد يتم الإقتباس المعاكس. اللبنانيون هنا في هذه الحال ربما يقتبسون الوصفة السريلانكية. وفي هذه الحال يختلط الحابل الرئاسي بالنابل الغازي والنفطي الموعود. ويصبح قول الأمين العام ﻠ "حزب الله" عن إحتمالات الآتي الأعظم نوعاً من التنبيه وفق مقولة: اللهم إني قد بلَّغت.

... وربُّك الغفور ذو الرحمة.

فؤاد مطر