الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

أفعال صغيرة من حكام كبار

الرجوع

أُرسلت إلى صحيفة "الشرق الأوسط"
بتاريخ الأربعاء 22/6/2022

إنطلاقاً من وجود أفراد قلائل من المصريين الشيعة، بدأ النظام الثوري الإيراني الديني وضمن مضمون مشروعه الإحتوائي إنشاء مدارس في بعض المناطق المصرية حيث في التربة شتول شيعية. كما بدأ يعمل على خطة تشييع يستكمل بها خطة مماثلة بدأها في السودان وقطعت شوطاً بعيداً على طريق الإنجاز ثم إنحسرت.

كانت عيون القيمين على المشروع الإحتوائي في ما يخص مصر شاخصة على رمزيْن يعنيان للجمهور المصري الكثير: حي السيدة زينب ومسجد الإمام الحسين. وخطوة بعد خطوة بعد خطوات كثرت العروض والإقتراحات الإيرانية حول وضع لمسات شيعية على الرمزيْن. وساعد على ذلك أن زيارات عادية ثم رسمية تمت من جانب شخصيات إيرانية.

فجأة حدث نوع من التبدل في المسار المصري _ الإيراني. ثم جاءت الإستضافة الكريمة وذات البعد الإنساني من جانب الرئيس أنور السادات للشاه محمد رضا بهلوي المريض الفاقد عرشه الأمبراطوري. والأكثر غرابة من ذلك أن الصديق الأميركي تركه طريدة لرجل الدين الخميني الذي كانت حتى عودته بترتيب أمني وجوي خطوة حاسمة على طريق أن يكون الخيار الديني نظاماً لإيران من أجل إستحداث نظام إسلامي شيعي يشكل حالة تنبيه إلى النظام الإسلامي السُني، مع الأخذ في الإعتبار أن إيران في نظر راسمي ومنفذي هذا السيناريو هي مركز القلب بين الجار السُني العربي والجار السُني الآخر من أفغانستان وباكستان إلى أندونيسيا وماليزيا وتلك التي يتقاسم فيها الإسلام السُني مع طوائف أُخرى. ومن هذه الفرضية يجوز القول إن الولايات المتحدة لزمت التأمل إزاء إقتحام النظام الإيراني للعراق، بل قد يجوز الإفتراض أن جزئية من الحرب الأميركية _ البريطانية على العراق الصدَّامي كان الغرض منها تذبيل الشأن السُني العراقي الذي كان متسيداً بإمتياز على أكثرية المفاصل وإنعاش الشأن الشيعي بإعتبار أن الكفة الشيعية في الميزان السكاني هي بمعدل الثلاثة أرباع مقابل الربع الذي كان أصلاً مغطى بستائر العقيدة البعثية التي إستمرت علمانية حتى العام 1993 عندما قرر الرئيس صدَّام حسين الذي يكابد نظامه الفاقد الرهانات وطأة حربه مع إيران وغزوه للكويت ثم تداعيات الحصار والعقوبات التي تلت حرب تحرير الكويت، تدريس القرآن الكريم لتلاميذ وطلاب المدارس كافة وتخصيصه 105 ملايين دينار لوضع كتاب الله بين يديْ كل تلميذ وطالب. كما قرر إدخال مادة القرآن الكريم في الإمتحانات العامة للمرحلتيْن المتوسطة والإعدادية. هذه المبادرة العائدة إلى الحالة النفسية التي يعيشها الرئيس الذي تراكمت الصدمات لديه تفسر كيف أنه كان حتى لحظة شنقه دائم الحرص على نسخة من المصحف لا تفارقه ويرفض أن يأخذها سجانوه منه.

بعدما إستقر المقام نسبياً بالخميني وتحديداً بعد بضعة أشهر من نقْله من منفاه المدروس في فرنسا (يوم 1 فبراير/شباط 1979) كما من غرائب الصدف المنفى المدروس الآخر للجنرال ميشال عون وكيف أن كلاً منهما عاد لإشغال المنطقة حرباً وقلقاً وصراعاً وإنهياراً في معيشة العباد وأحوال البلاد.. بعد ما إستقر المقام بالخميني الذي كان عند عودته في السابعة والسبعين ويضغط عليه عامل السن لكي يستعجل تنفيذ مشروعه لبناء أمبراطورية دينية شيعية، بدأ التصويب على مصر منطلقاً في ذلك من الصفحة الفاطمية لمصر على مدى مئتي سنة، وعلى نحو ما إستنسخه الرئيس رجب طيب أردوغان لجهة العثمنة التاريخية لدول عربية أكثرها تحفيزاً له ليبيا التي جرب فيها ورقة المرتزقة فالقوى النظامية فالدخول طرفاً فاعلاً في التركيبة السياسية. وإلى الصفحة الفاطمية رأى الخميني تفعيل المليونيْ مصري شيعي بحيث يتم تنشيطهم وجعْل النخبة فيهم من مثقفين ورجال دين وسيلة تشييع في المحيط الذي يتواجدون فيه. وإلى ذلك الإنصهار مع الطرق الصوفية والجماعات الإسلامية التي رحبت بالثورة الإيرانية ما دام رمزها رجل الدين المتقدم آية الله الخميني بما يعني أن لهذه الأطياف فرصة لكي تحكم هي الأُخرى بدليل ما حدث في إيران. وهذا الترحيب بات واضح المعالم في ضوء تظاهرات جرت ورفع المشاركون فيها صور الخميني ولافتات الإشادة به.. هذا فضلاً عن إستغراب الخميني والصفوة المحيطة به من شيوخ وعلماء، كيف أن المصريين هم من السُنة لكن المكانة التي في نفوسهم لمقام السيدة زينب في قلب كل مصري، ولمسجد الإمام الحسين تتجاوز التصنيف الطائفي. وبدل أن يشكِّل هذا حالة إعتزاز في النفس الخمينية فإنه كان تكفيراً بما يضمره ويتعلق بمشروعه.

في ضوء هذه الأجواء التي عززتها تقديرات أهل الأمن نجد الرئيس السادات يجعل من تداعيات إسقاط نظام الشاه وبالذات من الجانب الإنساني للدراما الشاهانية، ورقة أراد منها القول ضمناً لأهل النظام الثوري الإيراني ما مضمونه إن مصر ليست بل ولا يمكن أن تكون، ملعباً لمبارياتكم الطائفية. وكانت الورقة عبارة عن تصرُّف إنساني لائق ويحفظ الكرامة لمن عصف بهم الزمن فباتوا في السفح عليلين مخذولين بعدما كانوا في أعلى القمة أباطرة طاووسيين.

قرر الرئيس السادات وقد رأى الحليف الأميركي يتناسى زمن الشاه محمد رضا بهلوي الذي كانت مدافع جيشه مصوبة بإتجاه واحد هو الإتحاد السوفياتي أن يفعل ما من الأصول أن تقوم به الإدارة الأميركية لكنها في وقت الضيق الأشد للصديق لا عين ترى ولا مشاعر ترأف. تلك طبيعة من يقدس المصالح على حساب أصول يوصى بها الأسلاف من أهل الحكمة.

تمثَّل قرار الرئيس وقد صدمه أن الباب الأميركي وبوابات أُخرى في القارتيْن الأميركية والأوروبية تمنعت عن إستقبال الشاه الذي زاده المرض إكتئاباً نتيجة إسقاط عرشه، بأن يعامِل الأمبراطور التائه بأعلى درجة من التعامل الكريم. إستقبال بحفاوة. إبلاغه أنه بين أهله ليس فقط كصهر لحقبة زمنية وإنما كصديق لم يكن النظام الثوري عند حُسْن أصول التعامل. تأمَّن له أفضل علاج من جانب أطباء مصريين وأجانب. أبلغه الرئيس المنتشي بإنتصار السادس من أكتوبر أن "في إستطاعتك الإقامة في قصر القبة" رمز أمجاد حقبة مضيئة من الحُكم في مصر. رد الشاه الذي يتفاقم المرض في جسمه شاكراً. يكفيه هذا التكريم.

لم يصمد طويلاً. أسلم الشاه الروح ممتناً للسادات الذي آمنه من خوف إستهدافه من إخواني مصري أو إيراني حرسي ثوري وافد بحجة السياحة، إلى جانب التعامل معه وكأنه سيد سراي عابدين في حالة إستقبال لسيد عرش الطاووس زائراً كما سائر الزوار من القادة لإجراء محادثات.

لم يكتف السادات بذلك. أجرى جنازة ملوكية رسمية للشاه إنطلقت من مقر الرئاسة (قصر عابدين). كان بوده أن يتقدم المشاركين في الجنازة لكنه لدواعي الأمن والبروتوكول أوكل الأمر إلى زوجته جيهان المتعاطفة بنسبة تعاطف زوجها مع عائلة الشاه، زوجته وأفراد عائلته. كان الموكب مهيباً. النعش على عربة عسكرية تجرها ثمانية خيول عربية. عشرات أكاليل من الورد على النعش الملفوف بعلم إيران الأمبراطورية. يتقدم المشيعون العشرات من طلاب الأكاديمية العسكرية بأزياء بيضاء وصفراء وسوداء. حتى لحظة مواراة الجثمان في مسجد الرفاعي في القاهرة بلغ التكريم مداه. في مسجد الرفاعي نفسه كان دُفن والد الشاه. لكن الإبن الوريث وقد إستقر حكمه نقل الرفاة إلى إيران.

هذا الذي أداه الرئيس السادات نحو الشاه ولم يكن موضع إرتياح الإدارة الأميركية أشعل غضباً في النفس الإيرانية. وهنا دخلت لعبة تسميات الشوارع ورفع الصُور و"البوسترات" كما الحال لاحقاً وراهناً في لبنان والعراق، في بند الصراعات السياسية. ولمجرد إغتيال الرئيس السادات وهو يتابع العرض العسكري من على المنصة (6 أكتوبر 1981) إحتفالاً بذكرى الإنتصار على إسرائيل، أخذ النظام الإيراني ﺒ "ثأره" من الذي فعله السادات خصوصاً أن الفعل الساداتي قوبل بإمتنان صامت من جموع إيرانية كثيرة كانت تتمنى أن يفعل نظامها ما فعله السادات، فيتم دفن الشاه كحاكم سابق وبإحترام من جانب حكام حاليين في الطريق إلى أن يصبحوا سابقين.

مثل هذا التكريم للشاه لقيه دون سائر المغضوب عليهم من أنظمة حلت محل أنظمة بفعل إنقلاب أو ثورات، مؤسس حزب "البعث" ميشال عفلق. رئيس وطنه حافظ الأسد حكم عليه وأبعده ومنع دفنه في وطنه سوريا. صدَّام حسين إحتضنه وأكرمه وسار في جنازته وواراه الثرى في ساحة "مبنى القيادة القومية للحزب الحاكم" نبش القبر أفدح نبش الحاكم الأميركي بريمر والمحلقين من خصوم الحقبة الصدامية في فضاء ذاك الحاكم.

عندما باتت هنالك حاجة إيرانية لإسترضاء مصر فضلاً عن شعور ضمني بصوابية ما فعله الرئيس السادات أعلنت بلدية طهران أنها بتوجيه من المرشد خامنئي والحكومة إستبدلت يوم 25 مايو/أيار 2001 (بعد رحيل الخميني ﺒ 12 سنة) إسم الإسلامبولي الذي إغتال السادات على الشارع الذي سموه "شارع الإسلامبولي" بغرض إغاظة مصر. يصعب إعتبار هذا الفعل (تسمية شارع باسم قاتل رئيس) رصيناً. كما يصعب تفسير التسمية البديلة شارع محمد الدرة بأنها نوع من التكريم للمعاناة الفلسطينية.

مثل هذه التسميات ومعها الصور والبوسترات الضخمة وبالذات في لبنان والعراق وسوريا واليمن تعتمدها إيران نوعاً من أنواع سلاح معركتها على طريق بناء الأمبراطورية الشيعية تقارع بها ومن قبل إكتمالها المستحيل الأمبراطورية السُنية. هذا ما أرادته أميركا وحليفاتها. وهذا ما قرأه الرئيس السادات في التعامل الأميركي مع الشاه محمد رضا بهلوي. ولربما إستحضر كذلك في الرد عليه وعلى النظام الإيراني الثوري قول الأعمى العينين المضيء البصيرة أبو العلاء المعري: لا تظلموا الموتى وإن طال المدى.. إني أخاف عليكم أن تلتقوا.

عسى ولعل يكون هناك بعض التأمل والتبصر الأميركي في العقاب الإيراني والثواب الساداتي. كما عسى يترجِم القول المعري لإدارة الرئيس بايدن أحد مستشاريه. كما عسى لا تعود تسميات الشوارع ورفع الصور المجسمة والبوسترات والأعلام غير الرسمية، وبالذات في لبنان بنداً في موجبات التطلع إلى الحكم. فالأفعال الصغيرة لا تليق بالحكام الكبار.. وإن كانت تدغدغ أحاسيس غيظهم أو أحلامهم بالسُلطة ينالها المتطلعون إلى وهجها. ومِن الإشارة يفهم اللبيب علَّه يتعظ. والله الحكيم والهادي.

فؤاد مطر