الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

الهتلرية داء... والتواضع دواء

الرجوع

أُرسلت إلى صحيفة "الشرق الأوسط" بتاريخ 16/5/2022

من أكثر المفارقات غرابة أن الدول التي إنتصرت على النازية الهتلرية قبل ثلاثة أرباع قرن أنجبت أنظمة من بينها النظام الروسي بطبعته البوتينية، تحيي ذكرى الإنتصار فيما هي بدءاً بالولايات المتحدة وسائر الدول الأطلسية التي ذاقت شعوباً ومدناً مرارة التطلعات الهتلرية تمارس، مع تنوع الممارسات، الأسلوب الهتلري إياه. من هذه الدول هناك إسرائيل التي وظفت معاناة بضعة آلاف يهود من التعامل الهتلري النازي مع هذه الألوف كورقة تعزز فيها تأسيس إطباقها على فلسطين وتشريد شعبها كما حال تشريد حرب روسيا البوتينية لعشرة ملايين من الشعب الأوكراني. والرقم إلى إزدياد يوماً بعد آخر. واللافت للإنتباه هو هذا الإصرار على أن تتواصل الهتلرية عمليات حربية للشهر الثالث على التوالي من جانب روسيا البوتينية وعمليات تدعيم بالسلاح والمال والإعلام والعقوبات من الجانب الأميركي الأطلسي وبدرجات متفاوتة. ويقترف هؤلاء ما يقترفونه من دون تفعيل التمنيات عليهم بصيغة المناشدة لتغليب وقار الحكمة على جنون العظمة، على نحو ما شددت عليه المملكة العربية السعودية من جانب ولي الأمر الملك سلمان بن عبدالعزيز ومجلس الوزراء والرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس الفرنسي مانويل ماكرون والبابا فرنسيس الذي أبدى إلى جانب الصلوات إستعداده لزيارة قطبيْ النزاع والتوفيق بينهما بما يضع حداً للتدمير والتهجير. ولكم تمنت نفوس كثيرة ومن كل دول العالم لو أن بطريرك الكنيسة الروسية الارثوذكسية كيريل تجاوب مع دعوة البابا فرنسيس وأصدرا مناشدة للتهدئة تؤسس للتسوية، لكن وطأة السُلطة البوتينية على أي خط لا يتماشى مع قرار الحرب حتى تحقيق الهدف حالت دون هذا اللقاء الذي ربما كان يشكِّل بداية وقفة موضوعية تؤسس لتسوية تعطي كل ذي حق حقه وليس كل ذي أطماع تثبيتاً لهذه الأطماع: أميركا ورفاق الدرب الأطلسي في إبقاء روسيا البوتينية على نحو ما هي عليه. وروسيا بوتين في أن يستعيد سيدها الراهن مجداً إنتهى كما إنتهاء الأندلس وفقدان أحد أمجاد الزمن العربي الغابر. وكلاهما العنيد الروسي والمتحرش الأميركي يقراءن في كتاب تعظيم الشأن الذي يؤدي إلى الهتلرية مع أن قليلاً من التواضع لكليهما يطمئن الشعوب ويبقي الأنظمة في كوكب السلامة.. أو بكلام آخر إن الهتلرية ليست طموحاً محموداً وإنما هي داء يفتك بالشعب وعلى مراحل عاجلاً ثم يفتك بصاحبه آجلاً، بينما التواضع الذي هو الدواء لكل علة يكرسه رقماً في لائحة الذين لهم صفحة وربما أكثر أو حتى بعض السطور في كتاب أهل الحُكْم الأنقياء في العالم شرقاً وغرباً وبين بين.

ثم إن عدم التجاوب مع مناشدة البابا فرنسيس وسائر مناشدات من قيادات عربية وإسلامية ودولية كان تضييعاً للفرصة التي تؤسس لتسوية متدرجة المراحل ولمصلحة أن يسود السلام يلي ذلك بدء التعمير من جانب روسيا للتدمير الذي تسببت به وهي على سبيل المثال في ضوء ما إنتهت إليه الغزوة الصدَّامية للكويت تعرف أن أعباء التعمير الروسي في أوكرانيا أكثر من التعويضات المليارية من جانب العراق للكويت، وستكون ذات زمن أكثر بكثير من التعويضات الأميركية والبريطانية بوجه خاص للعراق الذي أمعنت فيه الجيوش الحليفة تدميراً. وأكثر بكثير أيضاً من تعويضات يهود العالم في حال أرادوا دولة يهودية مستقرة على أرض فلسطين، يضخونها في صندوق تعمير ما أحدثه التدمير في دولة فلسطينية تجاور الدولة اليهودية وتتعايشان من دون أن تتكاثر الفواجع وأحدثها هذا الذي أصاب الإعلام العربي بسقوط شيرين أبو عاقلة مضرجة على أرض وطنها برصاصة من قاذف هتلري التربية الإسرائيلية.

وتكراراً نقول إن رموز الحرب والمواجهة أضاعوا فرصة أبداها قادة تصرفوا وكما لو أنهم القوة الدولية الثالثة على نحو ما كانت عليه تجربة حركة عدم الإنحياز في ستينات القرن الماضي، وأثبتوا بعدم التجاوب أنهم في تجاهلهم وعنادهم وإصرارهم على مواصلة المواجهة قصفاً من الجانب الروسي وتدعيماً عسكرياً وإعلامياً وعقوبات من الجانب الأميركي _ الأوروبي بالتوليفة الأطلسية أنهم في بعض جيناتهم السياسية على جانب من الهتلرية. ومن هنا الإستغراب لإحتفاليتهم بالإنتصار على الفوهر ونازيته ونازييه. وفي أجواء الشعر العربي قول أحدهم مع بعض التعديل: "لا تُنهِ عن جرم وتفعل مثله.. عار عليك إذا فعلت عظيما".

ثم إن ذكرى بضعة ملايين زُهقت أرواحهم في الزمن الهتلري تستوجب بدل النفخ في سعير الحرب والتي هي بالصواريخ التي طالما تعاظم التباهي بها في زمن الحرب على العراق، إقامة صلوات على أرواح تلك الملايين الذين قضوا كما حال ضحايا الحرب الروسية تنفيذاً الأطلسية تمويلاً وعقوبات، ونشْر ثقافة التسامح والتنمية وبحيث تكون لكل دولة رؤية كتلك التي أطلقها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وباركها خادم الحرميْن الشريفيْن الملك سلمان الذي أفرحت سلامة الفحوص التي أُجريت له قبل بضعة أيام الملايين المغاثين من قوافل نجدات مركزه للإغاثة والأعمال الإنسانية ومن رعايته لحالات صحية مستعصية وتجد نجاحاً لها وأحدثها التوجيه بنقل توأم سيامي يمني لإجراء عملية الفصل له.. ومن دون التوقف عند هذا يمني ومتفهم وهذا يمني حوثي ومتجني.

عند التأمل في راهن الحرب الروسية _ الأطلسية خاب الأمل من جانب الرأي العام في كل دول العالم من القطب إلى القطب بالقادة الذي ما زالوا على عنادهم يواصلون إشعال أجواء طمأنينة العيش بسلام نيراناً من كل نوع وبحيث مَن لا يطلق صاروخاً فإنه يقذف كلاماً وتحديات أشبه بالصواريخ. وها هي المحنة متواصلة للشهر الرابع على التوالي. بدل أن يكتفي الرئيس بوتين بورقة القدرة على أن يبدأ المواجهة ويكتشف أن ليس بالضرورة أن يكون الذي يبدأ هو الذي يحسم، فإنه مقتنع بأن باء الكرملين (الحرف الأول من إسم بوتين) عليه إنتزاع باء البيت الأبيض (الحرف الأول من إسم بايدن) وهو مقتنع بأن فوزه في ذلك يحقق له تمديد الرئاسة إلى ما هو أكثر من ولاية أو إثنتيْن في الحد الأدنى كما الحال في الولايات المتحدة.

ومرة أُخرى نرى إمكانية فرصة حل يحفظ ماء الوجه في قمة العشرين التي تستضيفها أندونيسيا في جزيرة "بالي" في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. هناك سيتلاقى الغاضب مع المغضوب منه مع المغضوب عليه. هناك سيكون صانعو السلام على موعد مع وقفة متعقلة إذا هم أرادوا، تشبه وقفتهم في قمتهم التي إستضافتْها المملكة العربية السعودية (دورة 2020) وتزامنت الإستضافة مع ذكرى تسعينية اليوم الوطني. وهناك سيقول كل منهم بألسنتهم ما هو متراكم في قلوبهم. وكل من المشاركين في تلك القمة في نفسه مرارة وعلى لسانه كلام يجب أن يقال علَّه يمسح عتباً إستقر في أعماق النفس.

جو بايدن. فلاديمير بوتين. شي جينبيغ. بوريس جونسون. ايمانويل ماكرون. الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز تحت سقف اندونيسي مع بقية الأربعة عشر كوكباً رئاسياً الآخرين الذين هم أعمدة خيمة الاقتصاد العالمي الذي بدأت المكابرة الروسية _ الأطلسية تزلزل خزائن عُملاتها وأرقام ميزانياتها.. زلزالها. الكل يرى أن عليه أن يتفادى ما هو أشد هولاً من الحرب التي بدأها أحدهم الرئيس فلاديمير بوتين من منطلق أن هذه فرصة روسياه لتعويض المهانة والإستهانة ولرسم خارطة جديدة للمسار العالمي لا تكون فيها الزعامة والقيادة والعملة حكراً على طيف واحد، وإنما بتقاسم العالم شرقاً وغرباً والمباشرة بحل كل ما هو معلَّق عن سابق تصميم من الحالات والأزمات بدءاً بالتسوية المؤجل تنفيذها عن سابق تصميم ونعني بذلك الموضوع الفلسطيني _ الإسرائيلي تداركاً لما قد يكون ذات يوم أعظم وتشهد المنطقة العربية التي لا غنى عن نفطها وغازها، حرباً كتلك التي بدأها الرئيس بوتين في أوكرانيا وينفخ في نارها ويغذي شرايين إستمراريتها الرئيس بايدن ورفاقه الأطالسة. والله الهادي من بات عليه أن يهتدي إلى سواء السبيل الواعي في حُكْم البلاد والعباد.

فؤاد مطر