الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

على طريق إسكات المدافع

الرجوع

أُرسلت إلى صحيفة "الشرق الأوسط"
بتاريخ الخميس 28 أبريل/نيسان 2022

بعد حين تسكت بالتدرج مدافع الرئيس فلاديمير بوتين وقد روى بعض الممكن غليله من الشراك الأطلسية التي نصبْتها له إدارة الرئيس بايدن والتي خططت بأن يكون الدواء الأوكراني علاجاً للداء الأفغاني الذي إستشرى في مفاصل تلك الإدارة بعد الإنسحاب غير اللائق بدولة عظمى من دولة طالما عانى شعبها من التخبط في سياسة التعامل الأميركي مع الوطن المنكوب بالدور العسكري الأميركي الذي لم يختلف عن الدور السوفياتي سابقاً.

وبصرف النظر عما إذا كان سكوت مدافع بوتين التي دمرت بنياناً وشردت شعباً، سيأتي نتيجة أن ما قام به كان عدواناً وفي أشد درجات الظلم ولم يحقق سوى الأذى البالغ في حق الشعب الأوكراني موتاً وخراباً ولجوءاً وفي حق بعض شعوب دول العالم التي ما أن بدأت تستعيد عافيتها وطمأنينتها بعد الظروف الصعبة الناشئة عن الإستشراء الكوروني حتى جاءتها الجانحة الأوكرانية، أو أن الإسكات أتى درءاً لما قد ينتهي إليه الإصرار على إستكمال الخطة المرسومة حتى إذا هي وصلت إلى مشارف هتلريتها... إنه بصرف النظر عن الأسباب الموجبة فإن إختصار الخيار الحربي الذي بدأه بوتين يشكِّل دعامة للتطلع الذي لا يخفيه وهو أن تتجدد رئاسته تلقائياً وهذا أمر لم يعد موضع تخمين، فضلاً عن أن المغامرة الأوكرانية كانت في بعض دوافعها من أجْل إستكمال مقومات الزعامة التاريخية.

وثمة خطوة حدثت بينما الحالة الحربية تزداد جنوناً وتتخلل جولاتها تصريحات أطلسية تزيد من لهيب النار المشتعلة يرد عليها بوتين شخصياً أو وزير خارجيته أو المتحدث بإسم الكرملين بالمثل وأحياناً بما يزيد الإشتعال. وجاءت الخطوة فيما هو أشد الحاجة إليها كونها أتت من المرجعية العربية الأكثر تأثيراً عند صياغة الإستراتيجيات بتنوع مقتضياتها. وأهمية الخطوة التي تمثلت بالتواصل مع وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز أنها جاءت في أجواء ما كررت المملكة من خلال مجلس الوزراء الدعوة إليه هدياً برؤية خادم الحرميْن الشريفيْن الملك سلمان بن عبدالعزيز التي ترى أن تكون التسوية والتوافق من خلال خفْض التصعيد والحوار حلاً للأزمات المستعصية. وجاء الإنجاز الوفاقي اليمني متزامناً مع إستمرار المحنة الروسية _ الأوكرانية، ليؤكد صوابية ما تراه المملكة علاجاً لما إستعصى أمر معالجته من الأزمات.

من الجائز الإفتراض، بل والتأكيد بأن التواصل الهاتفي العفوي الروسي _ السعودي وعلى مستوى القمة من جانب الرئيس بوتين بولي العهد الأمير محمد بن سلمان جعل دوائر صناعة القرار الأميركي والأطلسي عموماً التي كانت ما زالت تتأمل بعناية بما قد يستتبع التواصل المماثل قبل ذلك بين الأمير محمد والرئيس الصيني.. هذان التواصلان أحدثا وقفة من التأمل العميق وبالذات لدى المنكبين على رسم خارطة أهمية أن تبقى المعادلة الدولية على حالها وبحيث لا يقتحم الجباران الشرقيان البعيدان الشرق العربي الأوسطي. وتأكيداً لهذه الخشية إذا جاز التوصيف، جاءت زيارة رئيس الحكومة البريطانية بوريس جونسون إلى الرياض (يوم الأربعاء 16 مارس/آذار 2022) وبدا الرئيس البريطاني في زيارته هذه كمَن يريد القول إنه يقوم بها بتكليف غير معلن من جانب الجمع الأطلسي بدءاً بكبير هذا الجمع الرئيس جو بايدن الذي لا بد زاد من التأمل في مفاعيل محتملة للتواصل السعودي _ الروسي والسعودي _ الصيني، وكيف أن هذا التواصل يتم على مستوى من الرقي بات منسوبه دون تاريخية العلاقة السعودية _ الأميركية الإستراتيجية. ولا بد أن الرئيس جونسون الذي عاد من الزيارة وقد وقَّع إلى جانب توقيع الأمير محمد على مذكرة تفاهم بشأن تشكيل مجلس للشراكة الإستراتيجية. بين المملكة السعودية وبريطانيا سيسدي الكثير من النصح لرفيق الدرب الأطلسي جو بايدن بأن يُدخل الكثير من التعديلات الجذرية على مزاجية رؤاه المتعلقة بالدول العربية عموماً وبأهمية الدولة الجامعة للشمل العربي المملكة العربية السعودية.

وحيث أن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلتقى بوتين يوم الثلاثاء (26 أبريل 2022) وتباحث معه في لقاء الطاولة المستطيلة التي يبدو فيها جليسه الأجنبي بعيداً جداً عنه (فيما اللقاء وجهاً لوجه يقتصر على وزير دفاعه) فإن اللقاء بدا كما لو أنه ينطلق من حيث الإتجاه المفضل للمملكة وهو خفْض التصعيد ومباشرة الحوار. ويُفترض أن الواجب الأممي للأمين العام غوتيريش يفرض عليه تذكير الرئيس بوتين أحد الخمسة الكبار أصحاب الفيتو في مجلس الأمن أن ورقة الغاز ليست مستحبة الإستعمال منعاً وذلك من منطلق أن هذه السلعة إرادة إلهية شأنها شأن الماء والنفط والنتاج الزراعي تصبح حقاً لمن يستعملها ما دام يدفع الثمن، ولذا لا يعود من مالكها حجبها. وقد تبدو هذه النظرة رومانسية _ روحانية بعض الشيء ولكنها في الوقت نفسه واقعية إذ ماذا سيفعل بوتين وأي قيصر من شاكلته بإهراءات القمح ذات مليارات الأطنان إذا كان سيمنعها ويسبب أيضاً حرقاً أو حجباً عدم تصديرها من أوكرانيا. وماذا سيفعل بالغاز إذا كان سيحجبه عن المحتاجين إليه الدافعين ثمن أنبوباته أو أنابيبه في بيوتهم وشركاتهم ومصانعهم. وبأي وسيلة سيبني بلده ويُطعم شعبه ويطور صناعاته إذا كان لن يأتيه العائد الملياري من الغاز.

كذلك نفترض أن الأمين العام أوضح للرئيس بوتين متجاوزاً لعبة الدولار واليورو والروبل والخيارات الكثيرة التعقيد المتحكمة في مخططه أن دول الأطلسي الغاضب عليه تضخ يومياً أكثر من مليار دولار إلى روسيا هذا عدا ضخ مليارات من سائر دول العالم، فهل من المنطق في شيء حرمان الشعب الروسي من عوائد ثروة خصها الله بها.

ومن باب الإفتراض أيضاً لا بد أن الأمين العام لفت إنتباه زائره القيصري وهما متباعدان إلى الطاولة الرئاسية المستطيلة إلى أنه يخالف في ما إقترفه في حق أوكرانيا الشعب والدولة والسيادة والإنسانية قوانين دولية من واجبه كرئيس دولة التقيد بمضامين هذه القوانين التي منها مدونة لاهاي (1907) ومدونة جنيف (1949) ونظام روما الذي أنشأ المحكمة الدولية الدائمة (1989). ومن أشهر الجرائم المثبَّت تحديدها في المدونتيْن هي تلك التي إقترفتْها الحرب البوتينية على أوكرانيا (كما الحرب البوشية على العراق) والتي إستهدفت عشوائياً كل ما تصوَّب عليه المدافع الروسية، والتي تسببت حتى الآن على صعيد التهجير بتسعة ملايين لاجئ.

فعل الأمين العام الأُممي ذلك وأكثر أم إكتفى بالتنبيه والتحذير. المهم أنه زار الكرملين وواجه في حدود صلاحيته ودوره أحد رؤساء التحكم بالعالم. وجاءت الزيارة على خلفية خطوة عربية تريد خيراً لروسيا بدل أن تذوي في الخيار الحربي الذي مآله الدمار والتشريد ونعني بها الحركة التشاورية الناصحة والمنبهة خلافاً للتحديات الأطلسية الإستفزازية. ولأن في الحركة بركة على نحو التعبير الشعبي فإن زيارات مماثلة يقوم بها الأمناء الثلاثة (الأمين العام للجامعة العربية. الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي. الأمين العام للمؤتمر الإسلامي) إلى موسكو والتباحث معه في جلسة ودية بروحية رؤية وليّ العهد الأمير محمد وحركته التواصلية النصوحة، إلى طاولة غير مستطيلة، قد تفيد في ترويض زعامة تحتاج إلى المروِّض الأمين والودي. وبعد ذلك يبدأ العد العكسي لإسكات المدافع.

فؤاد مطر