الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

ثلاث مباغَتات متلاحقة... والله المعين

الرجوع

نشرت في صحيفة "الشرق الأوسط"
بتاريخ 1/3/2022

لم تبقَ مرجعية دولية وإقليمية وأفريقية وعربية لم تُسدِ النصح بصيغة أو أُخرى لرئيس الحكومة الأثيوبية أبي أحمد بأن يعالج موضوع تأثير "سد النهضة" على كل من مصر والسودان بالتي هي أهدأ وأعقل وبحيث لا يكون تشغيل السد وفق الطموح الأثيوبي وإنما وفق مراعاة واقع ملموس ويتمثل في أن هذا الطموح سينعكس خراباً وجفافاً وفيضانات ستحدث في مناطق زراعية شاسعة في مصر والسودان. وليتصور الرئيس الأثيوبي أي حالة كارثية سيتسبب بها إبتهاجه بتسويق الكهرباء التي سيولدها تشغيل السد والعوائد المجزية من هذا التسويق، لمئة وخمسين مليون مصري وسوداني تُصنف حكومة كل من الدولتيْن "سد النهضة" ﺒ "التهديد الوجودي" في حال تشغيله ﺒمعزل عن التفاهم والتوافق على قاعدة مراعاة مصالح الجميع وليس فقط إبتهاج طرف من المثلث النيلي هو الطرف الأثيوبي، أو بالأحرى زعامة يرنو إلى إمتلاكها أبي أحمد.

قد نجد مَن يرى أن أبي أحمد يجد في بداية تشغيله للسد على نحو ما حدث في وقت إنشغال دول العالم كبيراتها وصغيراتها بالأزمة الأوكرانية، أن الفرصة مواتية لكي يخطو خطوة التشغيل التي يحسب لها كثير التحسب الرئيس عبدالفتاح السيسي وكذلك الرئيس السوداني عبدالفتاح البرهان، بإعتبار أن الدول الكبرى لن تكون مهتمة بغير الأزمة الأوكرانية التي قد تُسبب حرباً كونية. ثم إن الرئيس المصري والسوداني لديهما من إنشغالات البال ما يجعلهما يرجئان أي خطوة حاسمة مع أثيوبيا إلى ما بعد إنحسار الحراكات الشعبية في السودان التي ما زالت تتوالى وتطالب التظاهرات بتسليم مقاليد السُلطة إلى المدنيين، وإلى ما بعد إطمئنان الحكم المصري إلى أن الأحوال الليبية المتشابكة سترسو على ما يطمئن المحروسة مصر بحيث تقوم حكومة ليبية ترتبط بمصر بأفضل العلاقات وتكون صاحبة العين الساهرة والقبضة الحاسمة تجاه أي محاولات إنتقال الميليشيات الاسلاموية تسللاً إلى مصر. وإنشغال البال المصري بالحالة الليبية لم يتوقف منذ تلك المناورة والعرض العسكري على حدود مصر مع ليبيا قبل بضعة أشهر الذي حضره من بدايته إلى نهايته الرئيس عبدالفتاح السيسي ثم ختمه بلقاء له صفة الرسالة إلى كثيرين يجب أن يهمهم الأمر وبالذات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بشيوخ قبائل وشخصيات سياسية ذات حضور لافت في المشهد السياسي الليبي وإن كانت لم تأخذ فرصتها بعد. وبالنسبة إلى الرئيس عبدالفتاح البرهان فإن إنشغال البال الداخلي الذي لا يقتصر على مناطق الحدود التي أوجبت نوعاً من التحادث والتوافق في شأنها مع الرئيس أبي أحمد فيما موضوع تشغيل السد عالق، أوجزه صاحب الرقم الصعب في مجموعة الحكم العسكري الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي) بعبارة "السودان بلد تعبان ومضطرون للشحاذة رغم أنها مذلة أتبعها يوم الأربعاء 23 فبراير 2022 بزيارة مباغتة إلى موسكو من الواضح أنها تتصل في الدرجة الأُولى بمضمون الشحاذة والتعب كما ورد في عبارته وكان أيضاً بتلك العبارة كمن يحنن قلوب الألوف من الشبان والشابات الذين ينزلون بين الحين والآخر إلى الميادين والشوارع ويهتفون بسقوط الحكم العسكري من دون أن تستوقفهم حقيقة أساسية وهي أنه إذا كان السودان "تعباناً ومضطراً للشحاذة" في ظل حُكْم الفريق عبدالفتاح البرهان وعساكره، فإنه لن يكون أقل تعباً في ظل حُكْم المدنيين، وهذه حال لبنان خير مثال على ذلك حيث أن الأمر لم ولا ولن يقتصر على التعب وكذلك الشحاذة، ذلك أن لا إستجابة لمد الأيدي لا من الصديق ولا من الحالم بمواطىء أقدام، بإستثناء صناديق الإغاثة السعودية والمصرية والقطرية والكويتية والإماراتية والمغربية التي فيها من الدواء والغذاء ما يغيث المرضى الذين لا مال عندهم ولا طبابة لهم.

ليس بالأمر المستبعد أن البلية السودانية ومثيلتها اللبنانية على نحو ما أوردنا قد تعصف بأثيوبيا في حال مضى رجلها العنيد أبي أحمد إلى نهاية المطاف والتشغيل العملي للتوربين الثاني بعد التشغيل الأول الذي حدث يوم 20 فبراير/شباط الجاري (2022). في هذه الحال من المستبعد أن تقف مصر مكتوفة إتخاذ خطوة رادعة. ونقول ذلك على أساس أن تشغيل التوربين الأول الذي يقوي من عزيمة أبي أحمد التي أضعفها بعض الشيء حربه على الخارجين على سلطته في "التيغراي" ينبه مصر والسودان لكنه لا يقلقهما إلى حد الرد بخطوة ما على ذلك. وإذا جازت المقارنة فإن الغرض من تشغيل توربين أبي أحمد كان مثل مسيَّرة السيد حسن والتي جاءت تسمية النتاج الحربي الأول له "حسَّان" (أحد قادة المقاومة حسَّان اللقيس، إغتيل يوم 4 ديسمبر/كانون الأول 2013) الذي تُذكِّر اللبنانيين برئيس حكومتهم (حسَّان دياب) التي كثر العصف بلبنان في ظلها.

في أي حال كان الأمر مباغتاً في فترة زمنية متقاربة. حدثت المباغتة الحسَّانية وغير واضح حتى إشعار آخر ما إذا كانت ستذهب أبعد من معالجة حالة من الإحباط الأهلي في الوسط الشيعي اللبناني. وحدثت المباغتة الأحمدية المتمثلة بإصرار الرئيس الأثيوبي (أبي أحمد) على تشغيل التوربين الأول غير متوقف عند تحفظات الطرف المتضرر. إعتبر كم سيربح تسويقاً للكهرباء ولم يعتبر كم ستتصحر أراض في مصر ويسقط مخلوقات من جرَّاء العطش. قد يكون الإرتباك الأميركي والأوروبي _ الروسي في التعامل مع الأزمة الأوكرانية شجعه على ذلك. كما قد يكون هذا الإرتباك حفَّز الأمين العام ﻠ "حزب الله" حسن نصرالله على تطيير مسيَّرته وإرفاق ذلك بالمزيد من الوعيد. تلك لحظة عابرة في أزمات مصيرية تماماً مثل لحظة صحو في سماء ملبدة بالغيوم.

وفي علم الغيب ودرجة منسوب الحذر ما هو متوقع حدوثه بعد هذيْن المباغتتيْن. المباغتة الحسَّانية وما يمكن أن يكون الرد عليها ما هو أكثر أذى. والمباغتة الأحمدية وما يمكن حدوثه على ضفاف النيل الخالد من النبع إلى المصب. وأما المباغتة الحميدتية المتعلقة بزيارة الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي) إلى موسكو فإنها ربما تتجاوز حالة التعب والعوز التي يعيشها السودان إلى ما قد ينبه الإدارة الأميركية إلى تداعيات ناشئة عن أسلوب تصقيع العلاقات مع العرب تصب مستقبلاً في مصلحة روسيا البوتينية... هذا في حال تجاوزت المباغتات_ البوتينية. والله المعين.

فؤاد مطر