الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

كي لا يشبه اليوم البوتيني البارحة الصدَّامية

الرجوع

نشرت في صحيفة "الشرق الأوسط "
بتاريخ 20/2/2022

 

 

هكذا بعد إثنتيْن وثلاثين سنة تكاد طبيعة الأزمات الشائكة تعيد نفسها.

ماضياً في العام 1990 تلك الأزمة التي عصف العناد المستحكم في شخص بادئها فكان الغزو وإلحاق الأذى البالغ بالعلاقات العربية، ثم الحرب تلت ذلك ونقلت الدولة العربية الرقم أي العراق من الصدارة بجانب دول شقيقة إلى مشارف حافة الهاوية يراوح حتى بعد ربع قرن من الحرب الدولية عليه والإحتراب الأهلي المتدرج على أرضه من جانب أهل الوطن الواحد، مكانه من عثرة إلى عثرات.
وحاضراً في الأزمة الروسية _ الأميركية ودول القارة العجوز أوروبا التي يعيشها العالم والتي كما مثيلتها العراقية_ الخليجية التي إنتهت حرباً وتقليص ممنهج للسيادة الوطنية، ربما في حال رجحت كفة ذرائع العناد وتراجعت فرصة الحكمة تتسبب في الحاضر الدولي وبالذات الأميركي _ الأوروبي منه بما هو أفدح بكثير مما حدث في الغابر الخليجي.
في المشهديْن أوجه شبه كثيرة بين بطليْ الدراما السابقة وتلك التي يمكن أن تتكرر. فالرئيس صدَّام حسين الذي خرج بنصر نسبي من حلبة الملاكمة الحربية على مدى ثماني سنوات مع آية الله الخميني الأشد عناداً منه بدليل رفْض المساعي الإقليمية والدولية الكثيرة لإنهاء الحرب مع العراق والجلوس إلى طاولة التفاوض، لم يحصر إهتمامه بمداواة الجرح النازف في المجتمع العراقي وإنما ركَّز على توظيف هذا النصر بما يحقق له الحلم الذي طالما سعى إليه وهو أن يكون سيد الخليج العربي في الحد الأقصى أو الشريك الثاني في هذه السيادة وذلك بعدما فتحت الإدارة الأميركية نوافذ أمام علاقة إستراتيجية مع العراق الذي يقوده وذلك من خلال زيارات قامت بها إلى العراق شخصيات ذات شأن في المجتمع المصرفي والمالي والصناعي، وأعضاء في مجلسيْ النواب والشيوخ أوحى بعضهم بإمكانية أن يكون العراق الصدَّامي جزءاً من الشأن الأميركي في المنطقة. ثم تأتي لحظة غلب فيها هوس الزعامة الأكثر رحابة على الحكمة، وحمل صدَّام حسين على القراءة دون ترو في كتاب ما يعتبره "حقاً تاريخياً" في دولة الكويت سبقه إلى تقليب صفحات فيه موفور من أهل الحُكْم في العراق في الثلاثينيات وما تلاها من عقود.
ظاهرياً كان الرئيس العراقي المعتز بفوائد "أم المعارك" مع إيران يرى أن أميركا ودول أوروبا ستقف معه ما دام أوضح على الملأ النوايا فضلاً عن العبارة التي تطمئن القارتيْن الأميركية والأوروبية وهي أن عراقه لن يشرب النفط، أي بما معناه إنه لا خشية من صدَّام ولا مخافة على النفط وهذا أمر يلقى الإرتياح من جانب شركات النفط الأميركية والأوروبية.
في ضوء ذلك بدأ يتصور نفسه مالكاً أهم ثروة نفطية خليجية، نفط العراق ونفط الكويت بإعتبار وإفتراض أنه سينفذ خطوة في إتجاه إستعادتها. ولم يتأخر. بدأ الحديث عن إجراءات حدثت. وأرفق الحديث بتحشيد قوات على الحدود.
بدأت غيوم الخشية من خطوة غير محسوبة تتكاثر في الأجواء السياسية للمنطقة، نشط سعاة التهدئة يتقدمهم الملك فهد بن عبدالعزيز والشيخ زايد بن سلطان آل نهيان. وبذل كل منهما سعياً حميداً كان من شأن الأخذ به أن يعالج صدَّام حسين أعباء ما بعد الحرب وبحيث يتحول عشرات الألوف من الجنود الذين شاركوا في الحرب مع إيران إلى قوى تنشط في مشاريع تنموية وصناعات خفيفة. وهو حل أفضل بكثير من الذي رآه وهو أن إشغال الجزء الأكبر من الجيش العائد من الحرب مع إيران بمهمة الإطباق على دولة الكويت يفي بالغرض ويحقق عوائد لهذه القوات من المال الكويتي بإعتبار أنه بات بعد الذي جرى وهو إعلان إستعادة الكويت "فرعاً عاد إلى الأصل"، يمكنه الحديث حول الغزو بمفردات تحقيق الإنجاز الوطني.
لم ينفع النصح من كثيرين مع أن من حق الملك فهد والشيخ زايد عليه الإصغاء إليهما والأخذ برأيهما. يكفي ما حصل عليه صدام الحرب منهما ومن مصادر أُخرى مثالاً على المؤازرة. تساقطت الرهانات والتوقعات الصدَّامية. وسارت الأمور في الإتجاه الأسوأ. وهو بعدما كان يُمنِّي النفس بزعامة تتجاوز حدود العراق وفي ضوئها يعيد النظر في أسلوب الحُكْم ويمضي في ضوء ذلك كونه في سن فتية نسبياً (في مطلع الستينات عندما غزا الكويت) عقديْن جديديْن من الحُكْم إنما هذه المرة كواحد من الرقميْن الأكثر أهمية في خارطة الحُكْم في العالم العربي.
هذا المنحى من التفكير يتسم به سلوك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الحالم بأن يكون منتصراً جديداً وبأن يعيد أوكرانيا ثم أُخريات باتت جمهوريات مستقلة إلى الحضن الروسي، وبحيث يقال إن الإتحاد السوفياتي الذي كان محكوماً ﺒ ترويكا الرفاق الثلاثة عاد إتحاداً روسياً بصيغة الولايات المتحدة الأميركية وبرئاسة الرجل الواحد، تماماً على نحو ما يرنو إليه صدَّام.
ينتمي الإثنان إلى عالم فريد من نوعه. كلاهما غصنان في شجرة واحدة مسكونان بالعظمة وبالخشية والإحباط مما يمكن أن يصيبهما إذا هما إعتمدا حكمة التصرف والقبول بمَن يسدي النصح. كان صدَّام حسين سبَّاقاً. غزا ودفع الثمن حُكْماً ثم وطناً. في ما سعى إليه الملك فهد بن عبدالعزيز والشيخ زايد رحمة الله عليهما كان المأمول منه إنقاذ العراق من نوازل قد تحصل في أي لحظة وبالتالي حِفظ ماء وجه الصديق والحليف لكليهما كون كل منهما يدرك ما معنى التراجع عند صدَّام حسين بعد الإندفاع قولاً وفعلاً. وإلى ذلك درء الخطر عن دولة لم تقصر مع كليهما في مؤازرة العراق الصدَّامي ينازل إيران الخمينية، وذات سيادة في نظر جميع دول العالم.
وها هو الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون يستنسخ السعي السعودي _ الإماراتي ويحاول السعي نفسه ولهدف مشابه وهو إنقاذ أميركا بايدن من سقطة محرجة وإبقاء أوروبا في منأى عن عواقب الصراع في حال إنتهى حرباً وتخفيف نسبة التشتت في التوجه الأطلسي وحفظ ماء وجه بوتين إستباقاً لما قد يُقدِم عليه وتتكرر نوازع العظمة إلى درجة يصبح اليوم البوتيني توأم البارحة الصدَّامية.

 

فؤاد مطر