الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

لغة الكلام الحاد و"الفيتو المقاوم"

الرجوع

 

 

نُشرت في صحيفة "الشرق الأوسط"

بتاريخ الأربعاء 26/1/2022

يتأمل المرء مثل حالنا وهو يتابع بالأسى العميق في النفس حدة الكلام إلى درجة التجريح والإهانة والإستفزاز أحياناً، تتسم بها تعليقات أو تصريحات مسؤولين في حكومات دول عربية وإسلامية كما بعضهم في أعلى مكان في قمة السُلطة، كيف أن هذه الحدة تتكرر على رغم ما تتسبب به من أذى معنوي للسمعتيْن الوطنية والشخصية. وكان في إستطاعة المسؤول السوري الرفيع الشأن في السبعينات والثمانينات عبدالحليم خدَّام تصحيح قول له ذات مؤتمر عربي إن لبنان في نظره مجرد "كباريه"، وهذا ما أشرنا إليه في مقال سابق، وكيف رد السفير اللبناني لدى مصر محمد صبرا (رحمة الله على الإثنيْن) بالقول أمام الجمع العربي الدبلوماسي (وزراء الخارجية العرب) إن الوزير خدَّام لم يعرف سوى لبنان الكباريه وليس لبنان الحضارة والتجارة والعلوم والطبابة والإبداع الفني. لكن خدام لم يصحح وهذا طبع الذين يتشاوفون على الآخرين، نتيجة إمتلاكهم الشأن على أنواعه ومن ذلك ورقة السلاح، تلك الورقة التي إزدادت إصفراراً لكثرة إستعمالها ماضياً في زمن كابوس الإستضافة اللبنانية فلسطينيين بكامل أسلحتهم وإنتعشت حاضراً وربما دائماً في زمن الأمر الواقع الإيراني المتمثل بأن "المحرومين" باتوا "حارمين" أو فلنقل إن المحرومين أفرزوا قيادات وزعامات حارمة. وأهم عناوين الحرمان بطبعته الجديدة "الفيتو المقاوم" إقتباساً وتشبهاً لجهة علو الشأن ﺒ "فيتو" الخمس الكبار في العالم. وهذا "الفيتو المقاوم" الذي لا سابقة له في إدارة أصول الدولة هو عدم تيسير إنعقاد جلسة لمجلس الوزراء مع أن هذا المجلس ليس مُلك أعضائه الذين يتشكل منهم وإنما هو مُلك الشعب وبالتالي من المحرمات تعطيله، وأما الصراعات السياسية فهذه ساحتها مجلس النواب يقول مَن يريد قول أغلظ الكلام أو أرقِّه... أو حتى تتطور المجادلات فيحدث هجوم بالسواعد بعد تهجم بالألسنة من نواب على زملاء لهم عاركوهم وكانت جلسة برلمانية عنوانها الكر والفر تحت قبة البرلمان.. مجلس الشعب. أليس هذا ما حدث في الأردن قبل أيام على سبيل المثال لا الحصر وكما هنالك برلمانات عربية أُخرى عاشت بعض ما هو مستهجّن حدوثه.

وإلى "الفيتو المقاوم" الذي تراجعوه أمام غضبة صامتة كان من شأن المضي في التمسك بمفاعيله التعطيلية لشؤون البلاد والعباد أن يؤسس لإنتفاضة كتلك التي سبق وأن أشعل فتيل إنطلاقها الإمام موسى الصدر، كان هنالك التحدي وذلك بإعتماد عبارات إستفزازية من شأن التمسك بمضمونها إطفاء المتبقي من جذوة الوحدة الوطنية التي بلغت الحاجة كما لم تبلغ مِن قبل هذا المدى لعدم إندثارها، وذلك خشية أن يسقط الوطن في عراك متقطع يؤسس لحرب أهلية. وتحضرنا ونحن نقول تلك العبارة الشعرية الأقدمية "أرى تحت الرماد وميض جمر... ويوشك أن يكون له ضرام• فإن النار بالعودين تُذكى... وإن الحرب مبدؤها كلام".

زيادة في التوضيح ما زلنا مصدومين كما أكثرية الأطياف المحرومين الكاظمة مشاعر الغيظ والعتب معاً من حدة عبارات قالها الأمين العام ﻟ "حزب الله" حسن نصرالله وبعض القياديين في الحزب على الملأ في حق قامات عربية كانت دائماً شدادة الإزر للبنان في أزمانه الصعبة ودائماً سنَّادة له في مشاريعه التنموية.

وهذه العبارات التي نشير إليها حفَّزت حيوية الذاكرة على إستحضار ذلك التشخيص المسيء من جانب عبدالحليم خدَّام أيضاً المسؤول السياسي الفاعل في زمن سوريا الأسد الأب وردح من الزمن في زمن سوريا الإبن وتمثل التشخيص في قوله على نحو ما أشرنا إليه في مقال سابق "إن لبنان كباريه". وما يأسف له المرء وبعض الذين عرفوا خدَّام في سرَّائه وضرَّائه أن رحمة الله عليه لم يحاول مسح جرح ذلك التوصيف، ومعه توصيفات أُخرى زادها تعبيراً ي زمن عزه السياسي الأسدي ومنها عبارة لها صفة السقطة الخدَّامية الكلامية. فهو في ذروة إحتدام الأزمة اللبنانية التي دخلت سوريا الأسدية طرفاً أساسياً فيها (حرب السبعينات والثمانينات) وتزايد الحديث عن إحتمال الأخذ بالتقسيم حلاً يوقف المواجهات المتصاعدة، كان خدَّام نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية يقول وهو في الكويت إحدى محطات جولة يقوم بها لإبقاء أزمة لبنان تحت السيطرة السورية "إن المشكلة اللبنانية بالغة التعقيد ولن نسمح بتقسيم لبنان، وأي مباشرة للتقسيم ستعني تدخُّلنا الفوري فلبنان كان جزءاً من سوريا وسوف نعيده لدى أي محاولة فعلية للتقسيم. وهذا لا يعني الأقضية الأربعة ولا الساحل فقط، بل نعني جبل لبنان أيضاً. فلبنان إما أن يكون موحَّداً وإما أن يعود إلى سوريا...". وهذا الكلام حمل رئيس الجمهورية السابق وأحد أقطاب الطائفة المارونية كميل شمعون على مخاطبة خدَّام بقاسي الكلام معلِّقاً "إن معالي الوزير خدَّام درس التاريخ والجغرافيا في جامعة سعسع في الشام ولو كان دارساً أكثر من ذلك فعلاً لعرف مَن الذي إحتل الشام في الزمان. وقلعة فخر الدين ما زالت قائمة حتى الآن في تدمر...". كلام كثير الحدة جاء الرد عليه بكلام أكثر حدة.

عبدالحليم خدَّام ذلك الزمان غيره بعد الإنشقاق. بات لبنان البلد المستقل السيد الأحب إلى قلبه، كما أن الرئيس رفيق الحريري كان أحب رموز السياسة السورية - اللبنانية إلى نفسه. ورحل في باريس وهذا كان شعوره. وبقيت أوراق إحداها حكاية "الكباريه" ثم "إستعادة جبل لبنان". كما بقيت الحدة الشمعونية مادة في "موسوعة التحديات والأفعال الحادة" التي تزيد الإشتعال في الحرائق السياسية.

عسى ولعل يأخذ في الإعتبار هؤلاء الذين باتت الحدة في التعبير توأم ألسنتهم غير هيابين لأنهم ممسكون بتلابيب السُلطة وإتخاذ القرار فتتعطل لغة الكلام الحاد الذي كثيراً ما أصابت شظاياه لبنان ذلك اللوحة الجميلة في زمن "لبنان السوري الأسدي" وتتواصل الشظايا حاضراً من جانب "لبنان السوري – الإيراني".

وكان الله مع الصابرين على الضيم في إنتظار طلوع فجر جديد ينسجم طلوعه مع الحكمة التراثية للإمام الشافعي "حسبي بعلمي إن نَفَع ما الذلُ إلا في الطمع ما طار طير وإرتفع... إلا كما طار وقَعَ". 

... والذين طاروا وإرتفعوا ثم وقعوا بسبب حدة القول والتصرف كثيرون.

فؤاد مطر