الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

لبنان عبد الحليم خدَّام.. ولبنان محمد صبرا

الرجوع

 

 

أُرسلت إلى صحيفة "الشرق الأوسط" 

بتاريخ الجمعة 14/1/2022

من النادر عندما يلتقي لبناني مع لبناني، وبالذات أولئك الذين عرفوا العالم العربي من خلال أعمال تجارية أو وظائف أو مهمات قاموا بها إلاَّ ويكون هنالك بعض الكلام وبصيغة التحسر عما آلت إليه الأحوال في الوطن بفعل فاعلين أكثرهم تأثيراً في المشهد المأساوي الذين تسببوا به للبنان، الجار السوري والمقتحِم الإيراني. ومن غرائب الصدف أن الإثنين يلتقيان عند مغنم يتطلعان إليه وهو أن يصبح لبنان مثل خروف يلاحقه الذئب لجعله طبقاً في وليمة التطلعات الأمبراطورية الفارسية بطبعتها المذهبية، أو ورقة في اليد السورية تفيد عندما لا يعود صاحب السُلطة قادراً على تحصين سلطانه العربي. ولعله من النادر وجود مثل هذه الظاهرة التي زرعاها ثم سقياها وإستمرا يرعياها إلى أن أثمرت ما هو ماثل أمامنا: أحزاب لبنانية سورية الهوى للنظام ولرئيسه بشَّار الأسد أكثر بكثير من هوى السوريين أنفسهم. كما هنالك حزب وروافد تصب في مجراه ومسراه، إيرانية الهوى بما يرضي جوهر الحُكْم وتقديس بعض رموزه أكثر بكثير من رعايا ذلك الحُكْم في بلده وجمهور حاكمه.

هذه الخاصية لدى نماذج من رموز السُلطة والعمل السياسي والحزبي في لبنان هي نقطة الضعف في النظام من رموز القمة إلى رموز السفح فيه. وهؤلاء الرموز في كل خطوة يخطونها تتقدم المداهنة لكل من الطرفيْن السوري والإيراني على إتخاذ الموقف الوطني. وتتصرف هذه الرموز في ما نشير إليه من خشية إستقرت في النفس، أن يصدر عن هذا الرمز المسؤول أو ذاك موقف، أو حتى عبارة إعتراض أو حتى التحفظ عند التصويت على قرار يريد ذلك المرجع السوري أو الإيراني سرعة التصويت عليه وأحياناً يكون هنالك جامع مشترَك من كليهما في ما يتعلق بسرعة التصويت.

من هنا فإن الممارسة حكومياً وبرلمانياً لم تعد لمصلحة الوطن والمواطن. وشيئاً فشيئاً تصبح هاتان السُلطتان ومعهما السُلطة الأولى بمثابة رهائن من خمس نجوم، بمعنى أن الرموز هم رجال الحُكم وأعمدة خيمته الثابتة إلى حين.

هذه الحالة بالحدة التي هي عليها والرموز الذين يمثلونها جديدة على لبنان. ولعل هذا الإنحدار وعدم النظر من جانب الغير، أشقاء كانوا أم أصدقاء بإحترام إلى اللبناني سببه الإنطباع الذي ليس موضع شك وهو أن رموز السُلطة في لبنان هم وكلاء للغير، وتحديداً إن ولاءهم لمرجعيتهم الخارجية تتقدم على ممارسة الواجب الوطني بكل ما يفرضه هذا الواجب على المسؤول. وثمة وقائع كثيرة تؤكد ما نقوله. 

هذا الإنطباع عن أهل السُلطة وعما تسببت به للوطن وللشعب بات موضع إستهجان الذين عرفوا لبنان أو سمعوا عنه أو قرأوا الكثير من صفحات تاريخه، كما أن هذا الإنطباع ترك الأثر السيء على نظرة الشقيق العربي أو الصديق الأجنبي إلى لبنان فلم يعد الإحترام كما كان وإنحسر هامش الإعجاب بقدرة اللبناني على التطوير والإبتكار. وهذا ما كان ليستشري لو أن هنالك رجال دولة وحُكم تعنيهم كرامتهم وسمعتهم وعنفوان الوطن وعلى نحو ما كانت عليه النظرة ماضياً للوطن ومَن يسوس أموره من جانب صيغة حُكم جسَّدها ميثاق يحاول الذين بأيديهم وتفكيرهم وسلاحهم وولائهم للغريب العبث به وكذلك ﺑ "إتفاق الطائف" الذين يقلقهم منه ليس مضمونه المتوازن، وإنما لأنه إرتبط بالدولة التي قامت بواجب ما كان لغيرها مقومات إنجازه. وبدل أن يصار إلى توعية ما بعد إتفاق الطائف بأهمية ما قامت به المملكة العربية السعودية لوضع نهاية توافقية للمحنة التي عصفت بلبنان وكادت أن ترمي به إلى مهاوي التهلكة وبالإنتقال من حرب جيل الآباء إلى حرب جيل الأبناء فحرب جيل الأحفاد، فإن العزف النشاز على وتر التشكيك بذلك الإنجاز هو السائد. هنا نتساءل هل لو الإتفاق لم يتم برعاية سعودية وجهود سعودية ومتابعة أخوية وعلى مستوى الذين في قمة الحُكْم الملك فهد وإخوانه الذين رحل بعضهم مرفودة بإسناد عربي ودولي كان سيلقى هذا الجحود. وهنا تصبح هذه المقارعة وما يتخللها من تعديات لفظية وتدريبات على إلحاق الأذى بالسعودية الدولة والشعب عدواناً على الشعبيْن معاً، اللبناني الذي شكر السعي والسعودي الذي بذل المسعى وحقق المبتغى.

لن تصطلح الحال ويستأنف الشقيق والصديق إحترامه للبنان الوطن ولبنان المواطن وعلى نحو ما واكبا ذلك في عقود مضت، إلا إذا إحترم أهل الحُكْم أنفسهم والمواقع التي يشغلونها وحققوا ثقة الناس بهم. ومثل هذا الأمر يتطلب رجال دولة من نسيج وطني وعروبي وضميري صرْف أمثال رموز إحترموا وهم في موقع السُلطة وطنهم وشعبهم فكوفئوا بالمثل من الوطن ومن الشعب، وبات الشقيق كما الصديق ينظر إلى الأمر بإحترام ونكاد نقول بمهابة.

وتحضرنا في مناسبة كلامنا هذه واقعة تحويها إحدى أوراق جهاد مرتضى السفير السابق وأحد رموز الدبلوماسية اللبنانية التي تتسم بالتجرد والحس الوطني والعروبي والنأي عن التمذهب، الذي كان منصب وزير الخارجية يليق به لو أن الرئيس سعد الحريري صمد وشكَّل وتحمَّل. وهذه الواقعة ستوثقها ذات يوم مذكرات السفير الذي من إنجازاته عربياً وأوروبياً تأسيس السفارة في الدوحة وأن تكون السفارة في لندن سفارة كل اللبنانيين وأحد عناوين ميثاق وطنهم.

خلاصة الواقعة التي تعود إلى السبعينات أن سفير لبنان لدى جمهورية مصر العربية (الراحل) محمد صبرا كان يترأس وفد لبنان إلى إجتماع مجلس وزراء الخارجية العرب في القاهرة، وإلى جانبه جهاد مرتضى الدبلوماسي الثاني في السفارة.

وخلال مناقشة للوضع في لبنان الذي كانت السطوة السورية عليه بالغة الشدة، تحدَّث وزير الخارجية السورية عبدالحليم خدَّام (وكان زمنذاك في ذروة ولائه للرئيس حافظ الأسد قبل الإنشقاق المتأخر لاحقاً) بمفردات تتسم بالإستهانة بلبنان قائلاً أمام الجمع العربي الذي فاجأه القول، إن لبنان الذي تناقشون أمره "هو مجرد كباريه".

يا لهول هذا التوصيف، ويا لُحسن موقف إتخذه محمد صبرا الشيعي المستنير ومن النسيج نفسه الذي يتصف به الرئيس رياض الصلح وبشارة الخوري رحمة الله على الجميع.. نسيج الميثاق الوطني ولبنان الحضارة والرقي والثقافة والحضور المحبَّب عربياً ودولياً.

بلغ ضيق السفير محمد صبرا أوجه وكان لا بد من رد يقارع فيه خدَّام، مع الأخذ في الإعتبار حساسية المسألة وما يمكن أن ينتج عن الرد. ونجده يستحضر روحية مفردات رياض الصلح عند حدوث مناسبات محرجة من هذا النوع ويطلب الكلام مخاطباً الحاضرين رؤساء الوفود العربية وليس الوزير خدَّام تحديداً، قائلاً "يبدو أن معالي وزير الخارجية السورية لا يعرف سوى "لبنان الكباريه" ولا يعرف لبنان الحضارة والجامعات والآداب والطبابة والتجارة والصحافة والفنون الجميلة و.. و..". وما أن أنهى كلمته حتى جاء خدَّام إلى حيث يجلس وقال له ما معناه إنك ظلمْتني كثيراً بل أحرجتْني. ورد محمد صبرا: ولكنك أسأت إلى شعب شقيق ووطن عاش مع سوريا أصعب الظروف وتم إجلاء القوى الأجنبية بقوة العزيمة والإرادة.

... وللحديث بقية.

فؤاد مطر