الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

"بشير" لبنان... و"قاسمه" الإيراني

الرجوع

 

  نشرت في صحيفة "الشرق الأوسط "

 بتاريخ الخميس 13/1/2022

تكاد لا تمر مناسبة إلاّ ويسجل أهل السُلطة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية مواقف بالغة الحدة في حق الولايات المتحدة دون تمييز بين إدارة وإدارة، وتصل أحياناً إلى درجة صياغة الموقف بمفردات إنذارية. ولنا على سبيل المثال لا الحصر مخاطبة اللواء قاسم سليماني يوم كان ما زال يقود "فيلق القدس" الرئيس الأميركي دونالد ترمب بمفردات يوحي فيها بأنه قادر برجال "الحرس الثوري" على مواجهة الدولة الأقوى أميركا. ومن جملة أقواله في هذا الشأن مخاطباً ترمب "قد تبدأ أنت الحرب لكننا سننهيها" و "أنا ندُّكم وقوات القدس هي ندُّكم" و "في اللحظة التي أنت فيها عاجز عن التفكير نحن قريبون منك لدرجة لا يمكن تصورها...".

هذا العنفوان في أعالي درجاته جعل حتى الرئيس حسن روحاني يتخلى ذات تصريح عن هدوء الرؤساء في المناسبات الكلامية الشديدة الحماسة ويخاطب الرئيس ترمب بمفردات "سليمانية" مثل قوله "لا تلعب بذيل الأسد فالحرب مع إيران ستكون أم الحروب...". وهذه "الأمومية" سبق أن سمعها العراقيون ومعهم الأشقاء والأصدقاء في الأمتيْن من خلال تسمية "أم المعارك" لتلك الحرب التي خاضها الرئيس صدَّام حسين ضد إيران الخمينية. كما أن هذا العنفوان جعل الأمين العام ﻟ "حزب الله" السيد حسن نصرالله يقصف مهاجماً متحدياً في إحتفالية لمناسبة الذكرى الثانية للتصفية الجوية من جانب أميركا ترمب لسليماني ومعه ثاني مثلث الحراك الإيراني في المنطقة وفي محطات إقليمية ودولية وذراع إيران الفاعلة في العراق أبو مهدي المهندس. ويبقى من المثلث السيد حسن نصرالله الذي خاطب أميركا في إحتفالية الذكرى الثانية لإغتيال رفيقيْه بالأسلوب الذي إعتمده وزير الإعلام العراقي السابق محمد سعيد الصحاف وآخرون من المسؤولين في العهد الصدَّامي. ونتذكر عبارات في هذا الشأن كمثل "إن الجوارح ستأكل لحوم قوات أميركا إن حدث إعتداء على العراق».

لم تقتصر مفردات التحدي على قاسم سليماني وعلى روحاني، ذلك أن نصرالله  ذهب في الكلمة التي ألقاها في إحتفالية الذكرى الثانية أبعد بكثير من الإثنين ومن قاآني الذي شغل المنصب الذي خلا بإغتيال سليماني وأنذر هو الآخر قائلاً مخاطباً ترمب "من داخل بيتك قد يظهر شخص لينتقم منك على جريمتك". كما أن الرئيس الإيراني نفسه إبراهيم رئيسي قال عن ترمب "يتعين على خلفية جريمة إغتيال قاسم سليماني المروعة إنزال العقوبة وحُكْم القصاص العادل على القاتل والمجرم الرئيسي أي رئيس الجمهورية الأميركية في حينه". وتخفيفاً لنبرة التحدي هذه لم يسمِّ رئيسي ترمب بالإسم لكن ذلك لا يخفف من غليان النفوس.

قد يكون إحساس أهل السلطة في إيران أن إدارة الرئيس بايدن أضعف من أن يفوز سيدها الحالي بولاية رئاسية ثانية وهذا يسهِّل تنفيذ السيناريو المحبوكة بدقة خيوطه ويستهدف عودة ترمب شخصياً أو من خلال ظل له إلى البيت الأبيض.. إلا في حال نامت أميركا على بايدن رئيساً وإستيقظت على نائبته كامالا هاريس تقود البلاد نتيجة حالة مباغتة أصابت الرئيس. ومثل هذا التحدي هو بغرض الإيحاء بأن النظام في إيران قوي لدرجة أنه يخاطب الإدارة الأميركية بندية تخلى عنها حفيد كيم ايل سونغ الذي قرر قبل أيام وهو يجرب "إنجازاً صاروخياً باليستياً" جديداً الإنكفاء قليلاً عن التطلعات النووية والإلتفاف كثيراً نحو ما يجعل حال الكوري الشمالي لا تصل إلى تلك التي بدأ يعيشها اللبناني والسوري واليمني والسوداني والفلسطيني وإخوة لهؤلاء في العيش تحت وطأة الفاقة بتنوع حالاتها والإذلال بتنوع مهاناته.

قد تكون دوافع الحدة من جانب نصرالله في مخاطبة أميركا هي لإشعار الرأي العام في مناطق نفوذ "حزب الله" بأنه قوي إلى درجة مخاطبة أميركا بالمفردات التي حفلت بها كلمته وأن لا موجب لأي خشية من مفاجآت وعواقب في عِلْم الغيب الأميركي إلى جانب عِلْم غيب الإستحقاق الإنتخابي الآتي فضلاً عن عِلْم الغيب المتعلق بالمصير السوري وهل تحل المقايضات محل المحادثات النووية العقيمة وبذلك يحل منطق الحدة وتصبح المفردات التي أفرط السيد حسن في إستعمالها ضد مقامات عربية ومصالح لبنانية قرينة على قائلها عند تبدل الظروف وحلول معادلات جديدة. وحتى في هذه الحال لا تعود ذريعة المناخ الديمقراطي الذي يجيز التعبير تكفي لمحو آثار عبارات غير مستحب قولها. فالمناخ الديمقراطي يسمح بتسجيل رؤى ومواقف إنما يحرِّم تجاوز حدود التعبير. وحتى الأخذ بالتحدي له أصول سبق أن خرج على حدودها أسامة بن لادن قولاً وفعلاً فكانت تصفيته التي تباهى بها باراك أوباما بمثل تباهي دونالد ترمب بتصفية قاسم سليماني وذراع فيلقه الفاعل في العراق. وليس هنالك ما يردع ترمب إذا عاد، أو حتى بايدن إذا فاز بدورة رئاسية ثانية أو حتى أيضاً إذا ما ورثت هاريس المنصب، من تنفيذ ما في قائمة العقاب الأميركي. وليس غائباً عن الذاكرة كيف أن بوش الإبن وعلى خلفية ذرائع تتصل بالمصالح إنتقم حرباً ماحقة ضد العراق لأن صدَّام حسين أو الإبن عدي وضعا صورة بوش الأب على مدخل "فندق الرشيد" لكي يدوسها الداخلون ومن بينهم مسؤولون وصحافيون أميركان وأجانب.

ما نريد قوله إن التحدي والتعبير عنه سواء بعمليات تصفية خصوم أو بكلام تغلب الشتيمة على مفرداته مآله فواجع. حدث ذلك ماضياً مع بشير الجميل قائل العبارة الأكثر تحدياً "سيأتي يوم نقول فيه للسوري: إجمع أغراضك وكل ما سرقتْه وإرحل" فلقي نهاية كتلك النهاية التي لقيها قاسم سليماني ولم ينفع التحدي في أن يمارس بشير الجميل سلطته التي نالها رئيساً للجمهورية وأدى اليمين الدستورية عليها. كما أن توسيع قاسم سليماني لرقعة التحدي التي وصل إلى أبعد بكثير مما يجاز لأي طرف حتى إذا حقق حلمه النووي الوصول إليه لم تُحقق له الحلم في أن يكون رئيس إيران. وما بقي للإثنيْن "بشير لبنان" و "قاسمه الإيراني" عبارة عن مناحات وأعلام وتماثيل ولوحات وإحتفاليات وقداديس تذكارية... و"بشير ما بموت" و "كلنا قاسم".

لعل الذين باتوا أسرى "فيروس التحدي" يعتدلون. لعلهم يتأملون بكثير من الرشاد أن "بشير لبنان " كما "قاسمه الإيراني" وضعا كل وفق أحلامه وتهيؤاته لبنان في بند عدم الاستقرار... وها هو الوطن بين علامات من التعجب وأُخرى من الإستفهام. وأما الذي أداه "قائد فيلق القدس" ولم تكتمل حلقات مخططه فإنه ماثل للعيان في العراق وغزة واليمن وسوريا إلى جانب لبنان وأذرع كثيرة في مناطق ودول أُخرى. والله الهادي إلى ما يرضي العباد ويصون البلاد.

فؤاد مطر