الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

لاءات سودانية محسومة..وتحذيرات أُممية ودودة

الرجوع

نُشرت في صحيفة "الشرق الأوسط "
بتاريخ الخميس 18/11/2021
يكاد المواطن السوداني من أقاصي غرب الوطن وشرقه وشماله ووسطه وبعض جنوبه لا يصدِّق ما يرى كيف أن السودان الدولة التي أرهق كاهل شعبها عدم إستقرار العهود التي توالت عليه، العسكري منها والمدني، إلى أن حدثت صيغة التشارك التي ما لبثت أن إهتزت، بات فجأة قضية أممية وموضع إنشغال بال الدول الخمس الكبرى المتحكمة بالمصائر السياسية إلى حد في دول القارات الخمس، وبالذات بال الدولة القائدة الولايات المتحدة.
من خلال التأمل في ردود الفعل على موجات التغيير التي حدثت في سودان الشراكة المدنية – العسكرية، نلاحظ أن الإدارة الأميركية تعاني آثار المباغتة من جانب الطيف العسكري الذي أحدث فجأة ما يشبه الإرتداد عما هو متفق عليه. وهذه الحدة المتدرجة في التعبير عن إنزعاجها تعود إلى أن جيفري فيلتمان المسؤول الأميركي الذي أدار غرفة عمليات التوفيق بين المكوِّن العسكري والمكوِّن الثوري المدني وبينهما رئيس الحكومة الذي قلْبُه ومصلحته مع المكوِّن الأول وعاطفته وتطلعاته مع المكوِّن الثاني، غادر الخرطوم إلى أديس أبابا وهو سعيد بأنه طمأن مرجعه وزير الخارجية إلى أن الأمور نحو تهدئة وأن الطرفيْن إلى توافق، بوغت بأن تقديره لم يكن في محله وعلى هذا الأساس عززت الإدارة رؤية جديدة للوضع تقوم على معارضة التوجه العسكري علناً وتأييد بقائه طي الكتمان، وتأييد الحراك الشعبي الذي هو ديمقراطي المنحى بالصوت الأعلى إنما تعارضه ضمناً. وهذا له تفسيره ذلك أن الطيف العسكري¬¬ هو من حقق تطبيعاً وإن لم يكتمل فصولاً مع إسرائيل وتخشى الإدارة الأميركية ضمناً في حال إصطَّفت إلى جانب الطيف المدني أن تتسبب التناقضات داخل هذا الطيف في محو السطور القليلة من صفحة التطبيع التي لم تكتمل طباعة.
ومن هنا يمكن الإستنتاج أن الذي تريده الإدارة الأميركية من التهويلات الكثيرة النعومة من مغبة إندثار الحراك المدني، وتشاركها في التهويل دول حليفة وصديقة ذات تأثير من بينها بريطانيا وفرنسا ودول إقليمية هي معظم الدول الأفريقية، هو أن يستعيد التشارك تماسكه وأن تكون هنالك صيغة معدلة غير الحالية بمعنى لا يبقى المدنيون على إصرارهم بتسليم الطيف العسكري المناصب التي يشغلها الفريق عبد الفتاح البرهان ونائبه الفريق محمد دقلو (حميدتي) وسائر الجنرالات إلى المدنيين على نحو ما هو مثبَّت في الوثيقة الدستورية. وبذلك تطمئن النفس الأميركية وإستطراداً نفوس الدول الصديقة والحليفة ومعها الأطياف التطبيعية المستجدة، وبطبيعة الحال إسرائيل المستغرقة في حُلم التطبيع المتكامل. إطمئنان على أساس أن الأمور مستتبة في السودان الذي أنجز خطوة على طريق التطبيع لكنها خطوة من النوع القابل للتراجع بمثل ما هي محفِّزة للإقدام خطوات.
مثل هذا الإفتراض يستوجب التذكير بتنوع مفردات التعبير الإحتجاجي ظاهراً الودي ضمناً مثل القول التغريدي لوزير الخارجية الأميركية بلينكن "إن الولايات المتحدة معجبة بملايين السودانيين الشجعان الذين تظاهروا" وقول فيلتمان المصدوم من الفعل البرهاني المتمثل بإقالة الحكومة تمهيداً لتأليف حكومة برهانية الهوى "إنه ليس من السهل إعادة السودان إلى ماضيه المظلم" وقول الأمين العام للأمم المتحدة غوتيرش "على قادة الجيش أن ينتبهوا لإحتجاجات الشعب وحان الوقت للعودة إلى الترتيبات الدستورية" وقول سفير بريطانيا "إننا نقف جنباً إلى جنب مع الشعب السوداني الجريء الذي تظاهر بالملايين في شوارع البلاد دفاعاً عن الديمقراطية والحقوق الأساسية". وبعدما حسم البرهان الأمر بإعلان مجلس سيادي جديد برئاسته وأدى الأعضاء عساكر ومدنيين جُدداً اليمين أمامه علا قليلاً صوت الدول الثلاث المعنية بالشأن السوداني المتسارع المفاجآت (أميركا. بريطانيا. النروج) في بيان ومعها دول الإتحاد الأوروبي وسويسرا في بيان مشترَك وزعته الخارجية الأميركية يعبِّر عن صدمتها مما فعل البرهان. وهذه المرة إضافة المطالبة بإطلاق جميع المسؤولين المحتجَزين وأبرزهم رئيس الوزراء عبدالله حمدوك المستضاف في فيللا في حي كافوري الراقي، كما إستضافة الرئيس البشير ماضياً لرفيق نظامه وملهمه الإسلاموي الدكتور حسن الترابي.
مع أن الإتحاد الإفريقي دخل متأخراً حلبة المعاندة بغرض جمْع الشتيتيْن اللذين يمعنان معاندة في الموقف دون وجه حق، إلا أن النصح التحذيري الدولي الأميركي بالذات دخل ونحن نكتب ما نكتبه هنا يوم الإثنين 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2021 يومه الأسبوع الثالث من دون أن تتوقف إدارة الرئيس بايدن عن تنبيه وتحذير وبكل المفردات اللطيفة، الطرفيْن اللذيْن هما حتى إشعار آخر بالمرتبة المتساوية من التقييم لهما. فالطيف المدني لم يطرح في التظاهرات بما في ذلك مسيرة "الزلزال" أكثف تظاهرات الإحتجاج إلغاء خطوة التطبيع التي تمت، وهذا يريح إدارة بايدن. والطيف العسكري عند كلمته التي أبلغها خلال لقائه نتنياهو في عنتيبي يوم 3 فبراير/شباط 2020. ومن جانبه فإن الطيف العسكري يرى في ضوء الأشهر الكثيرة التعقيد التي أعقبت وضع الوثيقة الدستورية، أنه لا بد من أجْل الاستقرار أن تكون الشراكة أكثر رحابة في الصف المدني السياسي بحيث يصار إلى تضييق هامش الإجتثاث(تفكيك التمكين بالقاموس السوداني طبعة 2020) للعهد البشيري ويصار أيضاً إلى طمأنة أعداد كبيرة من الضباط في المؤسسات الأمنية من الذين خدموا في السنوات البشيرية، وذلك كي لا ينتهي الأمر في السودان على نحو ما بات عليه في العراق على يدي بريمر السيء التصرف.
في نهاية المطاف لا إستقرار في السودان إذا كان سيتم التفريط بالصيغة التشاركية. ولا تفعيل للمساعدات ولإلغاء الديون التي أثقلت الكواهل كاهلاً بعد كاهل على مدى نصف قرن. لا العساكر عندما حكموا وحيدين أفادوا ولا المدنيين أُولي الأحزاب عندما قُيِّض لهم أن يحكموا أداروا شؤون البلاد والعباد بالتي هي أفضل. ولا هنالك في الأفق ولا في المدى المنظور سوار الذهب آخر يفعل ما فعله المشير عبدالرحمن الذي قرأ المشهد بكثير من التبصر ورأى قطعاً لما يمكن أن يفعله الحراك الحزبي قبل ثلاثة عقود وإلتزاماً أميناً بكلمة شرف بالنسبة إلى صيغة الفترة الإنتقالية، أن ينصرف بمهابة القائد ومن دون أن تخدش كبرياءه مفردات ثورية كتلك التي رُمي بها بعض جنرالات السودان من الذين إنتقلوا من الثكنات إلى السرايات من بني قومهم الحزبيين والمتحزبين. ولقد فعل ثم بعد العلاج الكريم من المرض في الرياض، أسلم الروح هانئاً ورقد وبتكريم من الملك سلمان بن عبدالعزيز في رحاب تربة المدينة المنورة.
وبالعودة إلى كثافة التحذيرات الناعمة من جانب دول العالم الثالث التي تستهدف ترويض الوضع في إنتظار حسْمه، يبقى السوداني على دهشته من أنه بين ليلة ثورة شعبية وضُحى إنخراط جنرالات فيها الأمر الذي حقق بعض المبتغى، بات يرى أن هذا البلد الأشبه بقارة، إنتقل من هامش عدم إكتراث العالم به إلى أنه بات الملف الأهم، أو فلنقل واحداً من الملفات المهمة على الطاولة الأممية من واشنطن إلى بكين مروراً بلندن وباريس وموسكو وسائر الدول المحلقة في فضاء الخمس الكبار.
... ويا ليت بعض هذا الاهتمام تحظى به القضية المرجأة منذ عقود.. قضية حسم موضوع الدولتيْن على أساس رؤية المبادرة العربية لهذا الحسم (دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشريف إلى جانب دولة إسرائيل) وعندها يصبح التطبيع أمراً واقعاً وليس وزراً، كما لا يعود مستهجَناً أن قائد السلاح الجوي الإسرائيلي يشارك في معرض دبي للطيران وفي إجتماعات قادة الأسلحة الجوية المشارِكة دولها في المعرض وبذلك يذهب غيظ القلوب ويتوب الله على من يشاء. والله الغفَّار.
فؤاد مطر