الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

تأملات في ثلاث حالات مستعصية

الرجوع

نُشرت في صحيفة "الشرق الأوسط"
بتاريخ الثلاثاء 26/10/2021
لو أن العراق الثوري بمعظم أطيافه وتسمياته ومعه السودان الثوري بمعظم مفردات بيانات أقطابه يتأملان بما آلت إليه أحوال لبنان المبتلى بكل أنواع الفيروسات الحزبية والسياسية التي تمعن نهشاً في الكيان الذي يزداد هزالاً يوماً بعد آخر، لكان هؤلاء إستدركوا الأمور قبل أن يفوت الأوان ولا يعود الندم يجدي نفعاً وعلى نحو ما سبق أن عبَّر عنه الأمين العام ﻟ "حزب الله" حسن نصرالله من خلال قوله ما معناه أنه لو كان يدري أن الرد على خطف جندييْن إسرائيلييْن سيكون حرباً دمرت ما سبق أن أنجزه عهد رفيق الحريري لما كان لعملية الخطف أن تتم.
في هذه الأيام ينشط رموز أطياف العراق الثوري الممسك بأوراق كتلك التي في قبضة "حزب الله" ويزداد إمساكاً بها على أساس أنه من دونها لا يعود الرقم الوحيد الصعب في المعادلة الحُكْمية وإنما واحداً من سائر الأرقام العابثة في ميدان السياسة. ومما يثير الإستغراب أن البعض من أطياف العراق الثوري ليس فقط هنالك الذي قاطع والبعض الذي شارك لم يحقق الفوز المتناسب مع تأثير حراكه الثوري في مرحلة مضت، وإنما عمد إلى إستنساخ وصفة الرئيس دونالد ترمب لإبراء جراح الهزيمة في الإنتخابات بدءاً من ترداد القول إن ثغرات غير قانونية شابت عملية الإنتخاب ثم بعد ذلك جاء الرد على أرقام الصناديق التي ليست لمصلحته، ثم أخيراً وربما ليس آخراً المطالبة بإعادة الفرز يدوياً والدعوة إلى التظاهر والإعتصام إستفادة من الأجواء الرحبة من جانب الحكومة لجهة من يريد التظاهر والإحتجاج بالهتافات والبيانات والإعتصامات فليكن له ذلك إنما من دون أن يتسبب فِعْله هذا بالأذى للآخرين أو يعطل مصالح الناس.. أو يبلغ الإحتجاج مداه على نحو "الزلزال" الذي أعده السودانيون الغاضبين تشبهاً ﺑ "الزلزال" الذي تمثَّل بغزوة جماعات تناصر ترمب لمبنى الكونغرس وتركت بأعمال الشغب بصمة رمادية على مناخ الحرية في قلعتها الصلبة الولايات المتحدة.
وإذا كان محركو هذه الإحتجاجات يدرون أن وسائل إعتراض ترمب لم تجد نفعاً فتلك مصيبة. وأما الكارثة فإنها إذا كانوا يدرون أن الأمر إنتهى بأن ساكن البيت الأبيض بات جو بايدن، ومع ذلك يصرون على إستعمال "قذيفة" الإعتراض وإعادة الفرز ومقاطعة مرحلة ما بعد العملية الإنتخابية التي جرت بنسبة عالية من الأصول على طريق إستعادة العراق ينطق نهجاً متوازناً مع الأشقاء العرب وتفهماً متبادلاً مع الجار القريب والصديق البعيد وبالذات ذلك الذي عبْر المحيط حيث تمثال الحرية على ثباته.
لقد آن أوان الرفق بالأوطان وبالتالي بالناس الذين ذاقوا من مرارة الغواية الثورية والحزبية والحركية ما يدفع بالمصائر نحو المجهول. كما آن الأوان لطي صفحات إزدادت إصفراراً من مراحل مضت عاشتها أوطان عربية مغلوب على أمرها، والكتابة في صفحة جديدة تليها صفحات من الطمأنينة كون كلماتها تنضح بالحكمة والحنكة والخوف من الله وكذلك الخوف على الكيان والمواطن. فليس من التعقل بمكان أن يصار إلى إفشال عملية تصحيح وضع في العراق تشكل العملية الإنتخابية مفتاح أحد أبوابه المغلقة. وليس من التعقل بمكان أن تبعثر شرائح من الطيف السوداني صيغة إدارة متوازنة للدولة في أكثر الظروف دقة يعيشها المواطن.
وفي السياق نفسه ليس من الحكمة بمكان ألاّ يعيد بعض أهل "المقدسات الحزبية والثورية" النظر برؤيتهم وأساليب تعاملهم مع الأحوال الطارئة وتفعيل ما لخصه السيد حسن نصرالله الأمين العام ﻟ "حزب الله" بمقولته سابقاً إنه لو كان يدري بما يمكن أن يكون عليه رد فعل إسرائيل لما كان أمر بخطف جندييْها. وفي ظل الظروف الحالكة التي يعيشها لبنان منذ خمس سنوات يصبح مطلوباً أو محتملاً سماع مقولة مماثلة له بعد حين كأن تتضمن كلمة له في مناسبة عبارة لو أنه كان يدري أن حملة حزبه على أحد رموز القضاء اللبناني وكذلك حواره الفولاذي العبارات عبْر الأثير مع أكثرية لبنان الماروني- الكاثوليكي- الأرثوذكسي- البروتستانتي تزيد فجوة الهواجس من مشروعه المقاوم الإيراني المدجج بالسلاح ولا يخفف من وطأة الفجوة أن هنالك خيمة مارونية متينة الأوتاد حاضراً تلتقي معه في نصف الطريق غير معنية بالنصف المقاوم جملة وتفصيلاً... إنه لو كان يدري مفاعيل تلك الحملة لكان إعتمد كلاماً لا يشعل مشاعر أهل البيت المسيحي ناراً.
ثم إن أي شأن يتراجع أمام شأن القضاء. وقد يكون من المناسب التأمل كيف أن "هيلمان" ترمب الذي هو صاحب شأن سياسي عميق الجذور والتأثير في حزبه الجمهوري، لم يحل دون أن يدلي قبل أيام بإفادة أمام القضاء في قضية رفعها متظاهرون من أصول مكسيكية إتهموا حراس ترمب بالإعتداء عليهم، وحاول محاموه جاهدين تمييع القضية لكن لا أحد أهم من القضاء، ترمب كان أم الذين يطلب القاضي البيطار سماع إفادتهم. لكن "الحزب" كما "الحركة" وحتى مفتي الطائفة بأعلى صوته يرون تحريم مثل هكذا مساءلة.
ويبقى ونحن نتأمل في المشهد العراقي السوداني اللبناني وكيف تعطلت لغة الكلام المداوي عند الجميع وعند آخرين في الديار المغاربية، نرى أن ما باغت به السيد حسن مسيحيي لبنان بمَن في ذلك حارسي أوتاد خيمته من دون المجاهرة الصريحة بذلك، هو أن زعيم المقاومة تحدَّث في إطلالة التحدي سياسياً حول مسألة لبنانية وليس كمقاوم من أجل القدس. مثل هكذا حديث لا يتطلب التلويح بمئة ألف مقاتل مدربين كما الذي يقال في هذا الشأن من أجْل فلسطين. وبدل هذا التلويح فإن خير الفرص لوضع الأمور في مسارها وبما يهدىء من الروع عموماً هو إتاحة المجال أمام القضاء يؤدي الواجب إنطلاقاً من أنه كما لا أحد أهم من بلده فإن لا أحد مشتبَهاً به أهم من المساءلة إحتراماً للقضاء ولأن العدل أساس المُلْك.
وإذا أُجيز القول في مثل هكذا ظروف فإن تقديم كميات من السلاح لدى سلطة المئة ألف مقاتل إلى الجيش اللبناني رداً على تحية شاحنات المازوت التي سبق أن جاءت وللمزيد من الشاحنات يحتاجها الوطن في محنته الراهنة، كانت تحية أفضل ستعكس بداية إنطباع مطمئن لدى كل اللبنانيين محل المخاوف التي إستشرت. والله أكبر.
فؤاد مطر