الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

خير الأمور إستدامة الشراكة

الرجوع

نُشرت في صحيفة "الشرق الأوسط"
بتاريخ الأربعاء 20/10/2021
بات بعدما فاض الكيل لدى السوداني المستسلم إلى الأقدار والذي هو دائم الخشية من أرغفة لا يجدها فجأة أو الوقود الذي ما أن يتوافر يوماً حتى يندر وجوده أياماً، أن يرفع كلمة الحق الكفيلة بوضع حد للمجادلة العقيمة التي يتسع مداها، وهي أن الصيغة التشاركية التي حدثت وبمقتضاها كان التعاون العسكري - المدني الذي أثمر طمأنينة وأجواء إرتياح عربي ودولي وإحتمالات عوائد تستتبع إلغاء ديون متراكمة وجدولة ديون غير قابلة للإسقاط، هذا إلى جانب إختراق محسوب لمحرَّمات إرتبطت برؤية لم تأخذ واجب التوضيح اللازم... إن هذه الصيغة هي حتى ما هو أفضل مفتاح بوابة الاستقرار للسودان المحروم هذه النعمة منذ الخمسينات يتقاسم السياسيون والعسكريون على حد سواء وزر هذا الحرمان.
وعندما تكون هذه هي النظرة إلى الصيغة التشاركية العسكرية - المدنية، فلأن كنه المسألة يؤكد بعض الحقائق ومنها أن الإنتفاضة الشعبية التي حدثت ضد نظام الرئيس عمر حسن البشير كانت خطوة شجاعة من حيث عفويتها، إنما لولا الدخول السلس من جانب بعض العسكريين على خط الأزمة ودعمهم المتدرج للمنتفضين لكانت هذه الإنتفاضة التي بدأت مثل شمعة تنير عتمة سياسية وإجتماعية أبلغها النظام البشيري مداها، ستنطفىء ويتكسر الإندفاع الشعبي الذي ملأ شوارع العاصمة المثلثة وأسطح رحلات القطار الآتية من الولايات البعيدة، على أسوار المؤسسات البشيرية الحزبية وتبدأ حرب أهلية من نوع غير مألوف، يواجه فيها السوداني المعترض شقيقه السوداني "الإنقاذي". ويا ويل السودان من طول غضب السوداني عموماً ومن مفاعيل هذا الغضب.
كان العسكريون الذين إصطفوا إلى جانب المحتجين على درجة من الحكمة والبصيرة. سجلوا مواقف لكنهم لم يصدروا بلاغات وإنما بعض التوضيحات والتنبيهات عند الضرورة والخشية من فلتان الأمور، كون البلاغات أولاً وثانياً وتباعاً معناها إنقلاب عسكري. وهم بهذا التصرف صانوا الحراك الشعبي وفي الوقت نفسه سجلوا صيغة معادلة موضوعية خلاصتها أن الإنتفاضة من دون موقفهم كانت ستتكسر ويكرر الرئيس عمر البشير ما فعله الرئيس جعفر نميري عندما حاول الشيوعيون الإنقلاب عليه عن طريق بعض ضباطهم فكانت النتيجة فاجعة وإعدامات بعد محاكمات غير مكتملة أصول العدالة والواقع الاجتماعي في السودان، حيث أن شأن الشيوعيين في السودان كان بمثل شأن إسلاميي "الإنقاذ البشيري" مع فارق أن هذا الطيف الأخير كان رقماً أساسياً في السودان المالي والإستثماري فيما "الرفاق" الشيوعيين أقوياء عقائدياً. ولكن هذه القوة تراجعت أمام الشأن العسكري لنظام نميري وكانت تصفية أقطاب المحاولة الإنقلابية عام 1971 بمن في ذلك عبدالخالق محجوب وبابكر النور وفاروق حمدالله وهاشم العطا والشفيع أحمد الشيخ. ولا يغيب عن الذاكرة مشهد أرملة الشفيع القيادية الشيوعية فاطمة أحمد إبراهيم يوم عودتها باكية إلى الخرطوم (الأربعاء 17 ديسمبر/كانون الأول 2003) بعد ثلاث عشرة سنة أمضتها منفية في العاصمة البريطانية. دموع جديدة على زوجها الشفيع الذي كثر لوم السودانيين للرئيس نميري على إعدامه ودموع على حالة السودان وعلى حزبها الذي لم يكن حصيفاً عندما إفترض أن في الإمكان جعْل السودان محكوماً بحزب شيوعي. تلك دراما سياسية وثقتها في حينه بكتاب "الحزب الشيوعي السوداني.. نحروه أم إنتحر".
وما يعنينا بهذا الإستحضار هو التركيز بأن البشير إرتكب الإثم الإعدامي نفسه. وهذه المرة كان الذين أعدمهم 21 ويقال أكثر. كما يعنينا من التذكير أن الطيف المدني لا يمكنه وحيداً حُكْم السودان حتى إذا كانت هنالك قاعدة حزبية عريضة وملتزمة مثل الحزب الشيوعي. ولذا فإن ما ينادي به الطيف المدني لا يبدو واقعياً بالنسبة إلى السودان الذي أفشل قادة الأحزاب أول فرصة حُكْم مدني أتيحت لهم بعد إسقاط نظام الجنرال الرئيس إبراهيم عبود عام 1964 حيث قضت جولات العراك السياسي بينهم على الحراك الشعبي الذي أثمر أول إنقلاب مدني حزبي مئة بالمئة على نظام عسكري متين الجذور ومطعَّم ببعض المدنيين لغرض زخرفة الحُكْم أمام العالم. وبسبب ذلك العراك الذي نشير إليه تساقطت تجربة "المدنيون يحكمون" ولم تعد الصورة الشهيرة التي إنطبعت في ذاكرة السودان حاضرة وتمثل أقطاب الحُكْم في صورة واحدة تضم الصادق المهدي وإسماعيل الأزهري وحسن الترابي وعبدالخالق محجوب والشيخ علي عبدالرحمن وفاطمة إبراهيم. ثم بدأت التجربة الثانية لنظام عسكري هو الذي قادة العقيد جعفر نميري ومعه مجموعة من الضباط الرواد الرتبة وجرت أيضاً زخرفة النظام ببعض المدنيين فإستقر السودان بعض الشيء لكن معادلة الشراكة لم تكن مستقيمة. وهنا جاء ليكرر الأمر نفسه الجنرال عمر البشير متكئاً على الدكتور حسن الترابي الذي كان إنفضَّ عن نظام نميري. وحيث أن الترابي يتطلع كما قادة الطيف المدني في الإنتفاضة ضد نظام البشير إلى أن يكون العساكر حماة لهم وليسوا أسياداً عليهم، فإن البشير حذف الترابي من المشهد. وها نحن أمام حالة حذف على أهبة الحدوث من جانب الثنائي الفريق عبدالفتاح البرهان والفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي) للشريك المدني في حال إستمرت حلقات حزبية بعثية وناصرية وشيوعية فيه تنشط بهدف التقليل من الدور العسكري وإلى درجة المطالبة بتسليم المقادير ومنها مؤسسات أمنية إلى المدنيين. وهذا إستوجب من الرئيس البرهان الإيحاء. بما معناه إن الذين يطالبون بذلك ليسوا كل السودان الحزبي بل إنهم قلة ولذا يجب توسيع القاعدة الحزبية في الحكومة، ثم تصل الحال بالرئيس العسكري البرهان إلى التلميح بحل الحكومة الحمدوكية التي عقل رئيسها مع الثنائي البرهان- دقلو وعاطفتها مع "حركة التغيير" وتملك ورقة الدعم الدولي المالي المأمول للسودان مقابل ورقة التطبيع الذي إرتبط بالبرهان ولم يكتمل فصولاً وعوائد.
خلاصة القول إن تطوير الشراكة المدنية - العسكرية وليس الغلبة، هي التي تقي السودان إحتمالات الأخذ بالإنقلاب العسكري، وإعتبار الصيغة التي تمت تندرج ضمن معادلة خير الأمور وهي الإنقاذ للسودان من مغبة المغامرات غير المحسوبة والإمساك بالفرص التي أتيحت دولياً لجهة الدعم مالياً وإسقاط بعض الديون ومن شأنها إبقاء الأحوال المعيشية تحت السيطرة.
ثم في إنتظار إكتمال الترميم وإجراء الانتخابات تتأكد مكانة كل طيف وتُقفل الستارة على المشهد الأخير من المماحكة التي لا تحل المشاكل المستديمة. و... الله غالب ومعين.
فؤاد مطر