الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

لبنان الداء... والدواء والمداوي

الرجوع

نُشرت في صحيفة "الشرق الأوسط"
 بتاريخ الثلاثاء2/3/2021

لم يحدث من قبل في المجتمع الدبلوماسي في لبنان أن بادر سفراء الدول الكبرى وسفراء أوروبيون وإسلاميون وعرب إلى اللقاء وعلى وجه السرعة بسفير دولة عربية غاب ثلاثة أشهر عن لبنان لدواع تتوزع بين الخاص والعام. وما نعنيه بالعام هو التشاور مع مرجعيته في المعضلة اللبنانية المتمثلة بتعجيز من أطراف لتشكيل حكومة غير عادية، وذلك لكي تستطيع معالجة حالات بعضها متصل بالجائحة وما تسببت به للبنان التعليم والتجارة والصناعة والعمل المصرفي، وبعضها الآخر بكارثة لا سابق لها حتى خلال سنوات الإقتتال الأهلي المتقطع بين منتصف السبعينات وطوال الثمانينات. وتتمثل في إنفجار هيروشيمي الشكل، وربما الفعل حدث في مرفأ بيروت، وعكس تعامُل أهل السُلْطة الراهنة مع تداعياته وبعضها أقرب إلى الويلات والفواجع الأُسرية، إنطباعاً أنه تفجير متعمد لأغراض في نفوس أكثر من يعقوب واحد، بدليل أن الذين في قمم السلطة المثلثة رئاسة الجمهورية ورئاسة البرلمان ورئاسة الحكومة العالقة تصرَّفوا مع الكارثة الأكثر بشاعة وخطورة من كارثة 11 سبتمبر في نيويورك، وكما لو أن ما حدث قد حدث وكفى لبنان واللبنانيين ما هو أعظم. لا تفقُّد لموقع الكارثة. لا تفقُّد للضحايا. لا إعلان يوم الحدوث كارثة وطنية. وماهو أكثر خطورة أن لا تحقيق في ما جرى ولا تشكيل لجنة طوارئ تستمر تستقضي إلى أن تظهر حقيقة ما جرى. وعندما لاحت في الأفق ملامح الحقيقة فإن السلطة المثلثة إلتفت عليها من خلال تخريجات شكلية وتلاشت بذلك الملامح ومعها لحظات من التفاؤل لدى أمهات وآباء وزوجات وفتية وفتيات وأطفال ما زالوا يكابدون آثار الصدمة بكل أنواع الأذى الكارثي الناشئ عن الإنفجار الذي يحلم النظام الإيراني الساعي إلى إمتلاك السلاح النووي بشكل مشابه للشكل الذي رآه العالم وإعتبروه كما لو أنه تفجير نووي. وهذا في حال أتيحت الفرصة للنظام الحالم بإحياء الأمبراطورية الفارسية بمسحة دينية وسلاح النووي.

ومن الطبيعي أن يكون السفير العربي الرفيع الشأن، ونقصد بذلك وليد بخاري سفير المملكة العربية السعودية وجد نفسه وهو في الرياض في وضْع المجيب عن الإستفسار من جانب مرجعيته السياسية الدبلوماسية ومن السعوديين عموماً الذين إلتقاهم ولمس مدى التأثر في نفس كل منهم على ما أصاب لبنان ومدى إستغرابهم للطريقة التي يتعامل بها لبنان الرسمي مع لبنان الشعبي. وكان يوضح ما إستطاع إلى ذلك توضيحاً. كما أن السائلين لاحظوا فيه وكما لو أنه من جملة اللبنانيين الذين شملتهم الكارثة وفي نفوسهم. من اللبنانيين كماً من الحزن الممزوج بالغضب على الإدارة الرسمية للأزمة السياسية عموماً وما يتعلق بعقدة تشكيل حكومة بوجه خاص.

هذه الزيارات من جانب سفراء الدول الكبرى وسفراء أوروبيين وإسلاميين وعرب منذ اليوم الثالث لعودته إلى لبنان من غياب، يجمع القصد منه بين تسجيل الموقف وبين التشاور، وتسجيل الموقف بمعنى عدم تحميل الدولة التي تمثلها والتي كانت دائماً الطرف الذي يجمع ذلت البين عندما يكون الأقطاب اللبنانيون غير مهتدين، تمت في دارة السفير وليس في مكتبه الرسمي في مقر السفارة وهذا معناه أن الزائر مكلَّف من حكومته الإستفسار عن حقائق للحالة اللبنانية التي هي تحت المجهر السعودي وإستعصى على إدارات في هذه الحكومة فك طلاسمها وأن ذلك التكليف يتطلب الإسراع في الرد. بل أكثر من ذلك إن هذه الدول في صدد حراك ما أو إتخاذ وقفة تؤسس لموقف لكنها تريد أن تعرف كنه الموقف السعودي. ويمكن القول إفتراضاً أن جميع الزوار رموز الدبلوماسية الأجنبية والعربية والإسلامية وقفوا على ما يمكن أن يبني عليه هذا السفير أو ذاك تقريره إلى حكومته وفيه ما هو كثير الوضوح.

وأما المرجعيات الدينية وبالذات المرجعية المارونية في شخص البطريرك بشارة الراعي والمرجعية السُنية في شخص المفتي عبداللطيف دريان، فإن حال كل منهما كانت بمثل حال الدبلوماسية الدولية والعربية والإسلامية تواقة إلى الوقوف على رؤية المملكة وسماعها من قائل رسمي وهو السفير وليد بخاري العائد إلى لبنان بعد أن كانت سبقته على مدى أشهر مضت وتواكبت معيشة صعبة وأزمة حكومية عصية الحل، طائرات إغاثة ناقلة ضمن حملة الإغاثة من الملك سلمان من الدواء والكساء والغذاء ما يخفف الوطأة عن الكواهل.

وقد تبدو الزيارتان للمرجعيتيْن عادية من جانب السفير بخاري الذي طالما إعتاد على القيام عند إشتداد الأزمات بزيارات لافتة لغير الرموز السياسية. لكن الظروف التي يعيشها لبنان جعلت المرجعية الدينية المارونية تسجل إختراقاً في جراء العتمة اللبنانية وتتمثل في دعوة إلى تحييد لبنان فالمثابرة على التذكير بالدعوة في كل عظة يوم أحد ثم تطوير الدعوة إلى طرْح صيغة المؤتمر الدولي الذي يمكن أن يساند صيغة الحياد للبنان. ومن الجائز القول إن طبيعة الأمور لدى كل من المرجعيتين إختلفت بعد لقاء السفير بخاري بكل منهما، عما كانت عليه قبلها، ذلك أنهما باتا على بينة من رؤية الدولة العربية ذات الرقم الأكثر فعالية في المصير اللبناني، ليس فقط لأن سقف ما تقرَّر في مؤتمر الطائف هو الحامي لهذا المصير، وإنما لأن أي تطوير للصيغة اللبنانية التوافقية لا بد أن يتم في رحاب ما بات تسمية راسخة «إتفاق الطائف» كما التسمية الراسخة الأُخرى «الميثاق الوطني». وزيادة في الإفتراض فإن مسيرة التأييد الشعبي لرؤية البطريرك الراعي إكتسبت لمسة تأمُّل في واقع الحال من جانب المرجعية العربية الأهم، مع ملاحظة أن صيغة الحياد للبنان تشق طريقها إذا ما واكبتْها صيغة «إتفاق الطائف»، بل أكثر من ذلك يمكن القول إنه من دون ثبات هذا الإتفاق لكانت صيغة الحياد ستبدو مطلباً تقسيمياً وفئوياً وهي ليست كذلك على الإطلاق. وهنا يجاز القول إفتراضاً أن السفير بخاري أرفق الحديث مع المرجعيتيْن اللتيْن زار كل منهما في عرينه بلفت إنتباه إلى أهمية «إتفاق الطائف» كواقع بمثابة سياج للبنان وفكرة الحياد كفكرة قيد الطرح كقارب نجاة للبنان من شر الذين يعتبرونه ورقة ضغط لتحقيق مآرب وليس وطناً للجميع يعيش منذ ثلاث سنوات حالة تستوجب مسارعة محبيه إلى حِفْظه.

هنا يجد المرء نفسه يتمنى لو أن زيارة السفير الحامل رؤية الدولة الأكثر حرصاً وحدباً وخشية على لبنان شملت سائر المرجعيات الدينية حتى التي في نفسها فيض من عدم الود تجاه المملكة. ونقول ذلك على أساس معادلة تقوم على أن صاحب الصدر الأكثر سعة لن يضيره أن يضحي قليلاً إذا كانت التضحية المعنوية ستحقق كثيراً من وحدة الصف. وفي تاريخ المملكة العربية السعودية لمسات تسامح كثيرة أثبتت جدواها مع عدد من الدول والمرجعيات العربية وهي لولا تلك المبادرات المغلَّفة بالتضحية وعدم إعتبارها تراجعاً لكانت حالات عدم الود وأحياناً العداوة قائمة ولا طرف يتعاطى مع طرف.

وثمة مسألة مهمة في هذا السياق وهي أن لبنان الشعب يعيش مرحلة يتطلع فيها إلى تعديل نوعي في حالته.. هذا إذا إستعصى التغيير. وهذا اللبنان لا ينحصر في طائفة دون أُخرى. ولكن هنالك مَن هو قادر على تحديد ما يراه وهنالك مَن يتطلع إلى مَن يساعدون تعديل ولائه ونظرته لواقع الحال. ومن هنا القول إن بعض التضحية وسعة الصدر كفيلان بتحقيق ما يُستعصى حتى الآن حدوثه.

ونشير في هذا السياق إلى حالات حدثت ماضياً. بعد الستينات كان لبنان السُني ناصرياً وعندما لاحت في الأفق ملامح ضرورات لتعديل الموقف فإنه عدَّل. وكان لبنان الشيعي نصيراً للفلسطينيين وفي عمق التوجه اليساري، ثم عندما حدثت موجبات ضاغطة أو إختيارية أو تشويقية لإعادة النظر، فإن الأمر لم يستغرق كثيراً حيث إنتقل الولاء الشيعي من ضفة إلى ضفة. ووجد الطيف الماروني نفسه تحت وطأة مخاوف من هيمنة معادلة لبنانية سُنية-فلسطينية تؤثر على كينونته فوضع بعض رموز الطائفة اليد في اليد الإسرائيلية، ثم كان اليوم الذي يُقلق الضمير، فتصحيح جذري بما تم فعله.

القصد من هذا القول إن إعادة النظر ومِن دون أن تكون عملية تبديل للجلود مسألة من كنه التقاليد السياسية والحزبية اللبنانية. وحتى مهما بلغ التأثير السوري والشحن المذهبي الإيراني مداه فإن إعادة النظر ليست من المستحيلات، إنما تحتاج إلى براعة مَن يقوم بعملية ترويض ويكون صبوراً ويتحمل أمزجة من بات الشأن العظيم في شخص الواحد منهم مسألة عبادة.

لعلنا في هذه السطور التي حبَّرناها في معنى عودة سفير المملكة العربية السعودية وليد بخاري إلى لبنان بعد طول غياب إكتنفتْه كثرة التفسيرات، ومغزى هذه المسارعة من معظم سفراء الدول الكبرى والعربية والإسلامية الحائرة في أمر لبنان وأين هي نهاية مطافه إلى الوقوف منه على ما يمكن البناء عليه، وكذلك على لقائه بمرجعيتيْن دينيتيْن في إنتظار وعلى أمل لقاء سائر المرجعيات... لعلنا في هذه السطور أجبنا على الكم الهائل من التساؤلات الحائرة والتي قد تشكِّل الإجابة حولها فك اللغز اللبناني الذي إحتارت البرية فيه. وطن صغير مستخلص من طوائف هي السبب في الداء الذي يحتاج وعلى أقصى السرعة إلى الدواء والمداوي. والله خير معين.

 

 

فؤاد مطر