الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

ما أشبه الليلة الأحمدية بالبارحة الصدَّامية

الرجوع

أُرسلت إلى صحيفة "الشرق الأوسط"
 بتاريخ الخميس 14/4/2021

أجواء ما يحدث بالنسبة إلى موضوع "سد النهضة" من جانب بناة السد الذي لا تجيز تسميته أن يكون مشروع أزمة أو فتيل تفجير، سبق أن حدثت بعد الإقتراف الصدَّامي المتمثل بغزوة الكويت وكأنما هي ليست دولة عضواً في المؤسسات العربية والإقليمية والإسلامية والأممية، والتعامل مع هذه الدولة- المعترَف بها كدولة مستقلة والمسجَّل في زمن حاجة الرئيس صدَّام حسين إلى الناجدين الداعمين في الحرب مع إيران وقفات مساندة نوعية له من جانب أميرها وبرلمانها وحكومتها وشعبها وشعرائها وصحافتها وتجارها- على نحو ما كان يجري في الزمن الغابر الذي حفل بغزو قبيلة لقبيلة أُخرى. ولا موجب هنا للوقائع ذلك أن شعراء ذلك الزمن أدرجوا في كثير قصائدهم وقائع عن تلك الغزوات، أحياناً من أجْل عيون الجميلات الكحيلات وأحياناً من أجْل المراعي والينابيع والإبل والأغنام والجياد المستباحة أو المختَطفة.

منذ عشر سنين والحال المتوترة على ما هي عليه. بدأت أثيوبيا بناء سدها وإعتبرها قمة نجومية زعامة يتطلع إليها رئيس الحكومة أبي أحمد الطامح إلى إدراج إسمه في لائحة الزعامات الأفريقية التاريخية إلى جانب الأمبراطور هيلا سيلاسي أو الثاني بعده في القائمة يليه عبدالناصر المصري ونلسون منديلا الجنوب أفريقي. من حقه أن يحلم بهذا المجد. ومن حقه أن يقدِّم إلى الشعب الأثيوبي والقارة السمراء أوراق الإعتماد التي تثبت تطلعاته. وكان السد إسماً ومنافع وعوائد تتجاوز بكثير السد المصري على سبيل المثال لا الحصر، هو ورقة الإعتماد الذهبية، وبالذات لأن السد من جهة العوائد سيدر ثروات على أثيوبيا من تسويق الكهرباء في كثير من دول القارة وفي زمن باتت هذه الكهرباء المطْلب الأهم للناس بعد لقمة العيش. أليس هذا ما يحدُث على سبيل المثال لا الحصر في الدولتيْن الجارتيْن المتهالكتيْن التائهتيْن لبنان وسوريا اللتيْن تعيشان الظلم والتظليم بإرادة من سلطتيْن ظالمتيْن في حق نفسيهما كما في حق شعبيهما.

كان المأمول إستباق وضْع اللبنة الأُولى في بناء السد التأمل بعمق في التداعيات على كل من السودان ومصر وليس حصر التفكير في أن صاحب النبع هو الذي يقرر وينفِّذ وليس الذي تعبر مياه النهر أرضه وذلك الذي منتهى النهر عنده، فضلاً عن أحقية إنشاء السد كما أحقية مصر في ذلك. لم يفعل المأمول فِعْله من جانبه لأنه كان أسير شغف المفاجأة ويتحسب للمباغتة تأتيه للتو من الجار السوداني المتضرر والجار المصري الأكثر تضرراً في حال أكملت أثيوبيا ملء السد. والضرر هنا ليس من التداعيات التي يمكن علاجها، فضلاً عن أن ما كان جائزاً أو قابلاً للتحمل في مصر ذات العشرين مليوناً لا مجال لتحمُّله في مصر التي أكملت مئة المليون الأُولى، ومن دون أن تنفع حملات التوعية في الأخذ ولو من باب عدم الرضى النفسي بالتجربة الصينية معدَّلة لجهة تحديد المواليد بإثنين في الحد الأدنى وأربعة في الحد الأقصى. وفي ذلك علاج لحالة إستعصى حلها وتزايدت مع كل عهد من جانب حكوماته الدعوة إلى درجة المناشدة من أجْل إختصار نسبة النسل... ولا مِن متجاوبين ومتجاوبات.

في جانب من التبريرات الأثيوبية أن مصر أقامت سد أسوان ومن دون إعتراض من أصحاب النيل فلماذا لا يجوز للأثيوبيين إقامة السد في أرضهم وملئه من مياه ينابيعه المتدفقة من أرضهم. هذا تبرير غير موضوعي، ذلك أن سد أسوان الذي هو أحد إنجازات عهد عبدالناصر إنحصر نفْعه كما ضرره في الأرض المصرية فقط، كما أن مياه ملئه لم تكن على حساب حصة آخرين، السودان وأثيوبيا، وأما الضرر الذي نتج عنه فبقي في حدود مصر وأصاب مصريين أغرقت المياه أرضهم وتَسبب الإغراق في تهجيرهم. وها نحن بعد ستة عقود من التهجير نرى ما يفيد بأن تعويضات ستعطى للذين تضرروا بيوتاً يكون التعويض أو مالاً.

وليس منطقياً أن تتكاثر المساعي دولياً وعربياً وإقليمياً من أجْل أن تتساوى نسبة عوائد أثيوبيا من السد بما يخفف نسبة الضرر الذي يلحق بمصر كثيراً وبالسودان أقل ضرراً في حال الإصرار على ملء المرحلة الحاسمة للسد بعد شهريْن. وإذا نحن إفترضْنا أن المسعى الذي قام به الرئيس الأميركي المتواري دونالد ترمب كان إستعراضياً ولذا لم يثمر، وكان عدم الإثمار مدعاة للإستغراب، من منطلق أن المسعى سياسي والساعي رئيس دولة دول العالم ولديها من المغريات ووسائل الضغط ما من شأنه إذا هي صممت وضغطت ترويض أكثر الأزمات تعقيداً. إذاً كان السعي لغرض في نفس ترمب لا مكاسب له من ورائه فإكتفى بإتاحة الفرصة إستعراضياً أمام رموز الدبلوماسية في دول الأزمة يقابلهم ويلتقط الصورة التذكارية المتعالية معهم.. وكفى. وعلى أصحاب النيل أن يقتلعوا أشواك أزمتهم بأيديهم. ونقول ذلك من دون إغفال الجانب الإيجابي من مسعى ترمب حقه والمتمثل في أن مسعاه جعل الأطراف العربية والأفريقية تبذل من السعي لجمع قادة المثلث النيلي على كلمة تقيهم وتقي شعوبهم شرور المواجهة وعندها لا تعود مياه نيلهم للإرواء ولإنتاج الكهرباء وإنما لإطفاء حرائق حرب يمكن إشتعالها ما دام الرئيس الأثيوبي على تصميمه في إكمال برنامج ملء "سد النهضة" لا يتجاوب مع أي مسعى توفيقي، كما كانت حال الرئيس صدَّام حسين عندما كثرت التمنيات والنصح عليه بأن ينسحب من الكويت وبذلك لا تحرق النار الأصابع. ونتذكر كم سعى بعض القادة العرب لدى صدَّام وكان الساعيان الأكثر حدباً هما الملك فهد بن عبدالعزيز الذي أوكل إلى السفير لدى واشنطن الأمير بندر أمر التوجه إلى بغداد لإبلاغ الرئيس صدَّام والحصول منه على ما يريده الملك خيراً لصديقه وللعراق وهو التعهد بالإنسحاب من الكويت، ثم السفر في اليوم نفسه إلى واشنطن لإبلاغ الرئيس بوش الخبر اليقين وبذلك لا يعود هنالك موجب لحصول الذي حصل. لقد أدى الأمير الدبلوماسي المهمة على أفضل وجه وبدا كما لو أنه على بساط الريح، من واشنطن إلى بغداد.. إلى البيت الأبيض، لكن مع الأسف بقي صدَّام حسين ممسكاً بكرة النار معتبراً أنه إذا إنسحب سيفقد شأنه أمام الشعب العربي وسيقال عنه ما لا يحب سماعه وسينزل بطبيعة الحال من الدرجة الأعلى في سلالم الحالة الشعبوية إلى السفح. هكذا كان يرى الأمور، ومن دون أن يتأمل في أي حال سيكون عليه العراق والشعب والمنطقة لأن عدم تجاوبه معناه الحرب. وهذا ما حدث. وهو رحل ظالماً ومظلوماً فيما تداعيات عدم الحكمة والحنكة والمرونة وضعت العراق والمنطقة على الأكف الإيرانية والتركية وبينهما قبْل سبعين سنة وحتى إشعار آخر الأكف الإسرائيلية.

هذا العناد الصدَّامي نرى بعض ملامحه في العناد الأثيوبي. بقليل من التبصر والحكمة يسود التعقل ثم لا تحدث المواجهة التي لا مصر السيسي ولا سودان البرهان ورفاقه ولا شعوب أفريقيا وأولهم شعب أثيوبيا فرداً فرداً تريد هذه الحرب... والتي في حال بقيت الليلة الأحمدية.. ليلة أبي أحمد رئيس الحكومة الأثيوبية شبيهة أو على مسافة ليست بعيدة من البارحة الصدَّامية. هنا تأتي نصيحة الملك سلمان بن عبدالعزيز التي ليست جديدة في قاموس مفرداته ماضياً وحاضراً ودائماً، خير علاج لمَن يتأمل فيها. ومع أنها وبالذات دعوته لمناسبة بدء شهر الصوم، جعلَ الله خادم الحرميْن ووليّ عهده الأمير محمد وشعب المملكة الحادبة على لبنان من عواده "إلى نبذ الخلافات والفرقة وتحكيم لغة العقل والحوار والتعاون على البر والتقوى" دعوة شاملة لبني أقوام الأمتيْن العربية والإسلامية إلاَّ أنها تخص رموز الأزمة الأثيوبية-المصرية-السودانية كونها في بداية الخشية من إشتعال لهيبها. وبالكثير من التأمل والأخذ بما يدعو إليه خادم الحرميْن الشريفيْن لا تتكرر البارحة الصدَّامية وبحيث تمسي ليلة أحمدية. والله الهادي إلى سواء السبيل.

فؤاد مطر