الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

خير الفرص لتصحيح المسار

الرجوع

نُشرت في صحيفة "الشرق الأوسط"
  بتاريخ الأربعاء 12/5/2021

في تاريخ العلاقات بين الأنظمة تصل الأزمات الطارئة التي يمكن معالجتها بالحسنى إلى درجة الخصومة فإنقطاع العلاقات الدبلوماسية، ثم تقطيع الأواصل بين الشعوب وتعطيل المصالح بجانبيْها مصالح الدول ومصالح الناس أسوأ تعطيل. وتطول هذه الحالات مع أن بعض الحنكة والحكمة وتقديم الصالح العام على الكبرياء الخاص من شأن الأخذ بهما ترويض الأزمة وإنزال درجة غليانها إلى ما يجعلها أقل سخونة. وفي غمضة عين يعود الصفاء بالتدرج وتتوارى الأزمة بما إختزنتْه من إجراءات وكلام.

وما بات واضحاً أن طول الأزمة لا يحقق أي مكاسب لهذا الطرف أو ذاك وأن مَن يبادر يندرج إسمه في لائحة رجال الدولة الذين يؤثرون الشأن العام.. شأن الشعب والوطن وذلك لأنهما الباقيان، على الشأن الخاص.. شأن صاحب السُلطة التي إلى غيره آيلة حتى إذا أوجبت الظروف والمعادلات البقاء الطويل في سدة الحُكْم.

مناسبة هذا الكلام أن سوريا المثخنة بكل أنواع الجراح والتلاعب الدولي والإقليمي في شأنها على موعد مع انتخابات رئاسية يوم 26 يونيو/حزيران 2021. وهي محسومة النتيجة من قبْل أن تبدأ. ومع أنه كان لمصلحة سوريا الوطن المتناثر والمتغانَم والشعب المهاجر والمهجَّر أن تُجرى إنتخابات وفق صيغة دستورية مستحدَثة أخفقت إجتماعات جنيف في إستيلادها، وبذلك يتم إسباغ مسحة حيادية أممية على الإنتخابات وتصبح النتيجة إرادة شعبية بإمتياز، إلاّ أن الإنتخابات بموجب "الدستور الأسدي" الذي مضى على وضْعه ثماني عشرة سنة خلت فيها سوريا من الإستقرار والدور بشكل مغيَّب وصارت مشروع لعبة بدل أن تكون مشروع دور، تشكِّل في أي حال خير فرصة للرئيس بشَّار الأسد كي يبادر بإستئناف الترؤس إلى إعادة النظر حتى إذا هو أعطى هذه الإعادة مسحة "التصحيح" الذي كان الشعار الذي أسبغه والده على الإمساك بالسُلطة متفادياً إعتبار ما قام به أنه كان إنقلاباً عسكرياً وهو الذي يرى أن الإنقلابات العسكرية السورية منذ حسني الزعيم تنجح إلاَّ أن دوامها من المحال، فضلاً عن أن مجرد تصور النهايات وتحديد ما إنتهى إليه أمر المثلث الإنقلابي العسكري الشهير (حسني الزعيم، سامي الحناوي، أديب الشيشكلي) تجعل الجنرال (وهو هنا الفريق حافظ الأسد) المتطلع إلى الجلوس في قمة السُلْطة يتنبه ويبتكر. ومن هنا جاء ﺑ "ثورة التصحيح" التي كانت أفضل دثار لعقديْن من الحُكْم العاصف أخذت سوريا خلال هذه السنوات المكان والمكانة في المشهد العربي بنسبة عالية وفي المشهد الدولي كجلوس على أحد المقاعد الخلفية بنسبة خجولة.

ونحن عندما نرى محسومية نتائج الإنتخابات تتويجاً للرئيس بشَّار الأسد في ولاية جديدة فلأن الخمسين مرشحاً الذين قرروا خوض السباق، سجلوا بترشحهم ومن قبْل أن ينتهوا إثنين مقبولاً ترشحهما إلى جانب الرئيس بشَّار، إنطباعاً بصُوَرية المناسبة فلا هي مفبركة ولا هي بفعل التحدي ولا حتى بغرض التشويش وتقليل النسبة المئوية، كما ولا حتى الإيحاء بأن المعارضة حاضرة داخل سوريا، ذلك أن هؤلاء الخمسين من أهل البيت الواحد أو فلنقل إنهم من المتظللين بالخيمة البشارية المعطوبة منذ عقْد سوري منتَفِض ولن يزيل من الأذهان الإنطباع بأن الخمسين كانوا بمثابة تزويق للمشهد الإنتخابي الذي كان لمصلحة الرئيس بشَّار أن يكون هنالك جياد في السباق.. وبالذات من خارج هؤلاء السياسيين الخارجين على الطوع الأسدي ويجوبون عواصم عربية وإقليمية، وبذلك تعطى المناسبة الانتخابية الرئاسية مسحة من الوقار. لكن الذي نشير إليهم يشغلون مكانات مرموقة في مجال الأعمال والتخصصات على أنواعها خارج البلاد منذ سنوات. وثمة مادة إحترازية في الدستور الذي يعود إلى 18 سنة خلت منتبهة إلى إحتمال أن يقتحم الحلبة أحد هؤلاء ويلقى ترحيب الناس بأمل أن يضع سوريا على طريق الإستقرار المدني بديلاً للإستقرار الأمني –الحزبي- العائلي. والمادة التي نشير إليها لا تجيز الترشح لمَن مضى على إغترابه عن البلاد عشر سنوات. لماذا هذا المنع وهل غربة العقد الواحد من السنين تنزع جلد المواطن؟ إنها اليقظة التي بإعتمادها يمكن تجنُّب ما تتحسب ثقافة الحُكْم الأسدي لحدوثه.

ما يلفت الإنتباه أن الرئيس بشَّار لم يعلن ترشيح نفسه رسمياً إلاَّ قبْل أسبوع من إنتهاء المهلة المحددة لتقديم الترشيحات وهي عشرة أيام إنتهت يوم الأربعاء 28 أبريل/نيسان 2021، وسبقه إلى الترشح خمسة، لم يطرح أي منهم برنامجاً كما الرئيس بشَّار الأسد الذي لم يقدِّم هو الآخر برنامجه. ثم بعد هؤلاء الخمسة زاد عدد المرشحين وكما لو أن مقعد الرئاسة السورية هو كرسي في صالة يقام فيها معرض أو تُلقى محاضرة.

بطبيعة الحال سيبدأ الدكتور بشَّار الأسد ولاية رئاسية جديدة. الفوز بطبيعة الحال مضمون والنسبة المئوية تسعينية كما حال إستفتائيْن إرتبطا بترؤسه. لكنه فوز متشقق لأن سوريي الخارج الموزعين على بلاد الله الواسعة غير معنيين بالعملية الإنتخابية مثلما أن النظام لا تعنيه توجهاتهم ولا فاعلياتهم وإلاَّ لكانت المناسبة الانتخابية فرصة لكي تبدأ رحلة العودة.

عندما تم ترئيس الدكتور الآتي إلى العرين الأسدي من فترة تخصص في بريطانيا رافقها زواج من إبنة الطائفة السُنية أسماء الأخرس ساد الإنطباع بأن الإبن المتشرب ثقافة وتقاليد الدولة النموذج في الحياة السياسية الديمقراطية، سيمسح عن سنوات حُكْم الأسد الأب ندوباً كثيرة وسيبدد بالتدرج الإنطباع السائد بأن سوريا ذات شعبيْن وسيعمل بحيث تكون شعباً واحداً، ذلك أن صيغة الرداء البعثي لم تحقق الدفء الطبيعي في الجسم السوري، وأنه أفاد آنياً ثم جاءت الإنتفاضة تكشف هشاشته. كما ساد إنطباع بأن الرئيس التاسع عشر سيضع سوريا، التي لم تستقر على حال على مدى ثمانية عقود من الإنقلابات والإنتخابات غير المكتملة الوصول، في المكانة التي تليق بها كتاريخ وجغرافيا.

وعندما تسلَّم الدكتور بشَّار الرئاسة وعلى أهون إجراءات التسلم كان في الخامسة والثلاثين. على مدى عشرين سنة لم تهنأ سوريا بالإستقرار الذي في ضوئه تتحول إلى دولة صناعية رائدة. إختلطت العقيدة الحزبية بالممارسة الأمنية بالخصوصية المذهبية بالتدخل في ما لا يعني السوريين، فإنتهت سوريا ملعباً للاعبين أغراب لا وجود للعربي بينهم. جاء الإيراني مستوطناً، تلاه الروسي ينشىء دويلة جوية-برية-بحرية، وإقتحم التركي أرضاً وكأنها فريسة وهو صياد. وأبعد النظام بفعل الإضطرار أو الإختيار لا فرق الأخ العربي عن القيام بدوره العلاجي له. وكما إنتشرت الذئاب الداعشية فإن قوافل من مقاتلين من "حزب الله" ما زالت جزءاً من المعادلة السورية-اللبنانية.

يحتاج الوضع بكل حلقاته الظاهر منها والمستتر لإعادة نظر من جانب الرئيس بشَّار الذي دخل في العمر الثاني. فهو في السادسة والخمسين وبات على مدى عقديْن من الحُكْم يحتاج كما الشعب بجناحيْه المقيم الصامد والمشتت بين مهاجر رغم أوضاعه ومهجور يعيش لاجئاً بحول من الله ونجدات عربية وأممية. وعلى ما هي الأحوال السائدة فإن الأبواب العربية ليست مغلقة تماماً أمام عودة الشقيق الذي لم تكن مجدية حذاقته في الرهان على دولتيْن أعطيتاه من طرف اللسان والقدرات العسكرية طمأنينة في البقاء لكنهما خطفتا منه الشأن في الحد الأقصى أحياناً والتقاسم معه أحياناً أُخرى. أعان الله السوريين وأعاد سوريا إلى أمتها.

ما يقال بالنسبة إلى الرئيس بشَّار الأسد يقال بالنسبة إلى الرئيس رجب طيِّب أردوغان الذي بدأ أُولى الخطوات على طريق التصحيح مع العرب، ومن المؤكد أنه سيكون أكثر طمأنينة في الداخل في حال واصل إجتياز الخطوات. كما يقال بالنسبة إلى أهل الحُكْم الإيراني الذي صار لزاماً في ضوء إخفاق مشروعهم البدء بصفحة جديدة مع معظم العرب وطي الكم الهائل من صفحات ذلك المشروع الذي عطل التنمية وأربك الوحدة الوطنية والتعايش الطوائفي في ديار كثيرة من الأمتيْن.

والله المعين لمَن في يده توظيف الفرصة المناسبة ويسلك السبيل من أجل سلامة الوطن وطمأنينة الشعب.. إن هو أقدم على ما يرضي رب العالمين.

فؤاد مطر