الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

من أجْل الدولتيْن بدل الثلاث

الرجوع

أُرسلت إلى صحيفة "الشرق الأوسط" 
بتاريخ الأربعاء9/6/2021

ذات يوم من صيف العام 2009 غمرتْنا كأبناء أوطان عربية طالما كثرت تساؤلاتهم كإعلاميين حول أي مصير سينتهي إليه العراك المحتدم كلاماً وإجراءات بين أبناء القضية الفلسطينية الذي حفلت به أشهر من التسعينات، مشاعر من الأمل بحدوث إنفراجات بعدما بثت وكالات الأنباء ووضعت الفضائيات كلمة (عاجل) على الشاشات، وما يفيد بأن موقفاً سعودياً بالغ الأهمية دخل على خط الأزمة الفلسطينية- الفلسطينية الحادة وأن هذا الموقف عبارة عن برقية وصلت إلى المؤتمر السادس ﻟ "حركة فتح"، الذي بدأ في بيت لحم، من العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز (رحمة الله عليه) قرأها الرئيس محمود عباس وقد بان الإرتياح الكثير الوضوح على محياه.

كانت البرقية دون سائر البرقيات التي طالما كانت تتلقاها السُلطة الفلسطينية في مناسبات إستثنائية، من حيث الصياغة والمضمون، بل يجوز القول إنها كانت مطالعة أو هي ورقة عمل بصيغة الإقتراح والطلب تأتي من المرجعية العربية الأهم. تجاوزت البرقية الخمسمئة كلمة مع تكرار عبارة "أيها الإخوة المناضلون" في بداية كل فقرة من فقراتها الست التي ختامها عبارة "عاشت الدولة الفلسطينية المستقلة التي أراها- بإذن الله- قادمة لا ريب فيها، ترفع رايات الحرية في رحاب الإسراء الطاهرة". وأما الملاحظة التنبيهية اللافتة في البرقية فإنها "أستحلفكم بالله أن يكون إيمانكم أكبر من جراحكم. والحق أقول لكم إنه لو أجمع العالم كله على إقامة دولة فلسطينية مستقلة لما قامت هذه الدولة والبيت الفلسطيني منقسم على نفسه شيعاً وطوائف...".

الذي جعل عبدالله بن عبدالعزيز يبعث بهذه البرقية هي الصدمة الناشئة عن أن الرمزيْن الأقوى شأناً في النضال الفلسطيني ("حركة فتح" ومَن يصطف معها وحركة "حماس" ومن يحلِّق في فضائها...). نقضا إتفاقاً تاريخياً سبق أن أخذاه على نفسيهما توقيعاً وتصريحاً وقَسَماً على كتاب الله. وما يضفي على الاتفاق المزيد من الأهمية أنه تم في رحاب المدينة المقدسة التي زادت حنيناً للحرم الثالث الذي يكابر المجتمع الدولي في شأنه ويقوم بالدوران حول لب الموضوع عوض حسم الأمر، وذلك بالتسليم أن القدس الشرقية بمسجدها وكنيستها هي عاصمة الدولة الفلسطينية التي بدل تعقيد أمر مصيرها وأحقيتها على نحو ما فعل الرئيس ترمب من خلال تطويبها(لفظاً) متباهياً حقاً لإسرائيل، بات لا بد من الأخذ بمبادرة السلام العربية، وإلا فإن أحاديث الزمن الآتي ستكون حول ثلاثية الدولة وليس الدولتيْن أي بما معناه دولة إسرائيل ودولة رام الله ودولة غزة. وهذا ربما وارد في الأجندة الأميركية وإلا فما معنى قول الرئيس بايدن أنه سيجهد من أجْل إنشاء دولة فلسطينية، أي أنه في صدد إختراع دولة من خلال جمع أمتار من هنا وأمتار من هناك.. وهكذا على مدى نصف قرن جديد من الإدارات الأميركية.

من هنا وتوظيفاً مجدياً للمحنة الغزاوية وكيف أن ثمن الصواريخ الحمساوية التي أصابت جزعاً في النفس الإسرائيلية عموماً، وإن كان الخطاب الرسمي حاول إقناع شعب إسرائيل والمجتمع الدولي عموماً بأن الذي إقترفه نتنياهو كان واجباً دفاعياً وليس جريمة تستوجب المساءلة على نحو ما قرر ذلك مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، فإن إستعادة روح إتفاق مكة كفيلة بتضميد الجراح ومعالجة الصدمات لأكثر من مليون ونصف المليون هم العدد التقريبي لسكان غزة، التي باتت بفعل عدوان نتنياهو أشبه بمخيم سيبقى مجموعة حطامات إلى أن تشق خطط إعادة، البناء طريقها. ومن الجائز الإفتراض أن توحُّد الموقف الفلسطيني وبروح إتفاق مكة سيقلص التردد العربي والدولي في مسألة إعادة البناء، وذلك لأن الأطراف لن تشارك إذا كانت هنالك جولة عدوان جديدة بعد إكتمال البناء، في حين أنها ستطْمئِن وتساعد عندما يتجدد الإلتزام بروح إتفاق مكة وصولاً إلى إعتماد مبادرة السلام العربية، وهذا ما أرادته المملكة العربية السعودية في ظل الملك عبدالله بن عبدالعزيز وتريده في ظل خادم الحرميْن الشريفيْن الملك سلمان بن عبدالعزيز ووليّ العهد الأمير محمد بن سلمان، الذي نفترض أنه يرى عدم الوصول إلى حل عادل وثابت للموضوع الفلسطيني مع إسرائيل وفي أقرب وقت قبل العام 2030 يشكِّل عثرات في طريق رؤيته الرائدة ومشروع التطوير الذي يحتاج إلى تهدئة على مستوى المنطقة. ومن الطبيعي عندما يُحسم أمر الحل العادل للموضوع الفلسطيني لا يعود مشروع التدخلات الإيرانية على النهج السائد والذي كان أحدث خططه في إستراتيجية الإيذاء تفعيل ورقة صواريخ إيران المنصوبة فوق الأرض وتحتها في غزة تخدم غرض المحادثات النووية، وأما إذا جاء الرد شرساً من إسرائيل، وهذا ما حدث، فإن على الدول العربية أن تساعدكم. هذا أيضاً ما نراه قيد البحث الآن. وهذا أيضاً بند في إستراتيجية إستنزاف السعودية وقتاً ومالاً من خلال الدور اليمني الذي لا يكلف النظام الثوري الإيراني، عدا تكديس السلاح والشحن المذهبي، أي أموال أو أرواح.

في إتفاق مكة الذي يتمنى أبناء الأمة على إخوانهم الفلسطينيين الذين يستعذبون الخصام ويمارسون التنافر بدل التوحد، تعهَّد رموز النضال الفلسطيني بالإتفاق وردد محمود عباس وخالد مشعل وإسماعيل هنية عبارات تؤكد على أن تكون الكلمة الفلسطينية إزاء العرب والمجتمع الدولي واحدة، وإستحضروا تأكيداً لذلك قول الرسول "فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض".

لم تمض أيام إلاَّ وإنشقت الأرض الإيرانية وبلعت قادة "حماس" و"الجهاد". وبقي الرئيس محمود عباس يحاول من رام الله لملمة التعقيدات والتناقضات ولا يساعد أخويْ يوسف اللذين هما أوقعا نفسيهما في البئر ثم جاء الذئب نتنياهو يحاول إفتراسهما. ولكيلا يُلدغ المرء الحمساوي و"الجهاد" مرة ثانية تؤسس للمزيد من اللدغات، فإن توظيف إرتضاء إتفاق مكة واجب، كما هو واجب المزيد من التأمل في من هم الذين إذا أصابت الفلسطيني مصيبة إسرائيلية فإن الأخ السعودي والمصري والخليجي عموماً بل والعربي كل وفق نخوته وقدراته حاضر للنجدة... إنما ليست بالصواريخ ومغريات الزعامة المطلقة الموعودة. وبعد ذلك يستقر حديث الدولتيْن ولا مجال للثالثة. ومَن يعش يرَ.

فؤاد مطر