الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

تلك إيران التي تريح وترتاح

الرجوع

نُشرت في صحيفة "الشرق الأوسط" 
بتاريخ الثلاثاء 15/6/2021

قبل أربع وعشرين سنة شهدت العلاقة الإيرانية-العربية في بعض سنوات رئاسة محمد خاتمي الجمهورية الإسلامية نسبة نوعية من الإنفراج المعقود عليه الأمل في تحقيق تفهُّم يؤسس لتفاهم. وتحضرنا تصريحات وزيارات للرئيس الذي لم يسجل على نفسه إطلاق تهديدات أو حتى إستفزاز هذه الدولة أو تلك. وصودف أن المبادرة العربية للسلام تزامنت كإقتراح من جانب وليّ العهد السعودي عبدالله بن عبدالعزيز (الملك لاحقاً) ثم كقبول بها من جانب القمة العربية الإستثنائية في بيروت (27-28 مارس/آذار 2002). وبدل أن يتسع صدر أهل النظام الثوري الإيراني لهذه الخطوة فإنهم نصبوا لها الكمائن وذلك من خلال تنشيط ذراعهم الحوثية. وكلتا الذراعيْن باتتا ورقة التهويل بدءاً بالدولة السعودية. ويوماً بعد يوم يتقلص دور الرئيس الإيراني ويزداد تأثير الحرس الثوري ودوره في رسم المواقف المعلَن منها وغير المعلَن.

لم نكن في حينه ندري أن الرئيس روحاني كان يغرد صمتاً خارج السرب في ما يتعلق ﺑ "المبادرة العربية للسلام". وكيف لن يغرد صامتاً إذا كان رفْع الصوت عالياً أو حتى بلباقة تعبير السُيَّاد ذوي العمائم السود سيكلف المغرد مصيراً كذلك المصير الذي لقيه على سبيل المثال لا الحصر محمد علي رجائي يوم 3 أغسطس/آب 1981 مع إختلاف الدواعي والظروف وطبيعة الرحيل أو الترحيل. ونقول ذلك على أساس أن كلمة الحرس الثوري من كلمة المرشد وأن كلمة المرشد لا يُعلى عليها.
بقي موقف الرئيس خاتمي في فضاء المجهول إلى أن دُقت ساعة البوح بما تختزنه الصدور، وذلك بعدما بات رئيساً سابقاً. وإرتأى بعد مرور أشهر قليلة على إنتزاع محمود أحمدي نجاد الرئاسة منه (3 أغسطس/ آب 2005) القيام بزيارة خاصة إلى الولايات المتحدة لإلقاء خُطب. لم يُفصح عن سيناريو تلك الزيارة وإن كانت التصريحات التي أدلى بها إلى صحيفة "يو. إس. توداي" الأميركية و "فايننشال تايمس" البريطانية تترك إنطباعاً بأن الرئيس السابق يريد من هذه الزيارة الإيحاء بأنه ما كان يصرح به وهو رئيس ويتخذه من خطوات إنما كان المسؤول الذي يفرض عليه المنصب ما يقوم به، إلاّ أن ذلك لا يعني أن قناعاته هي نفسها، وأنه بالزيارة الخاصة والتصريحات المتعمدة، خص منبراً أميركياً ومنبراً بريطانياً بها دون غيرهما من المنابر الصحافية الدولية وأيضاً بقية المنابر في الدولتيْن وما هي عليه ولاءات وسياسات هذه المنابر.. أي التعاطف مع إسرائيل.
في تلك التصريحات للصحفيين حاول خاتمي إرضاء ذاته وقناعاته والمجتمع الدولي متمثلاً بشكل خاص بالإدارة الأميركية والحكومة البريطانية وسائر الحكومات الأوروبية، والأهم من ذلك الإيحاء للقيادات الفلسطينية بأن إيران المتعاطفة والصديقة لهم والساعية لدى المجتمع الدولي من أجْل إنصاف قضيتهم أفضل من إيران التي يريد الحرس الثوري، على نحو ما بات هو شخصياً متأكداً من ذلك ولديه كمرجع رسمي مترئساً الجمهورية من العام 1997 حتى العام 2005 ما يثبت ذلك، بأن تكون فصائل من أهل النضال الفلسطيني بمثابة أذرع تحقق لإيران المرشد والحرس الثوري بشكل خاص المشروع الذي يتطلع إلى الثأر من الذين ساندوا عراق صدَّام حسين في حربه كمرحلة أُولى ثم تحقيق خطوات إحتواء أنظمة عربية في مراحل لاحقة.
ولقد قال خاتمي وهو في واشنطن بكثير من الوضوح الذي يؤكد ما نشير إليه كلاماً برسم أن يُسمع في واشنطن ولندن كما في طهران والرياض وبغداد وبشكل خاص في غزة ورام الله. قال "إن إيران ليست عدوة الولايات المتحدة وإن البلديْن لهما مصالح إستراتيجة مشترَكة في العراق وأفغانستان...". وقال "لا يمكننا أن نترك الحكومة العراقية التي تشكلت حديثاً تحت رحمة إرهابيين ومتمردين"، وشدد على بقاء القوات الأميركية في العراق إلى أن تتمكن هذه الحكومة من السيطرة على الأمور في البلاد. وقال "خلال سنوات توليِّ الرئاسة لم تُزود إيران شيعة العراق بالأسلحة". وقال " لن يستفيد أحد من السلام والإستقرار في العراق بقدْر ما ستستفيد إيران".
هذا عن إيران والعراق. أما عن الموضوع الفلسطيني والمساعي الدائرة في شأن تسوية الصراع العربي- الإسرائيلي فقال إنه ليس مع خَلفِه أحمدي نجاد الذي دعا إلى "شطْب إسرائيل عن الخريطة" وزاد التأكيد قائلاً "دائماً ما قلتُ وساندتُ سلاماً عادلاً ومتساوياً". وخص صحيفة رجال الأعمال "فايننشال تايمس"، ربما متعمداً، بالقول "إن إيران ستقبل دولة فلسطينية تعيش جنباً إلى جنب مع إسرائيل". ورغم ربْطه هذا القبول بموقف يصدر عن حركة "حماس" بالمعنى نفسه، فإن مجرد قوله يشكِّل في حد ذاته إنعطافة بالغة الأهمية. كما تتجلى الإنعطافة أكثر من خلال القول بصيغة التأكيد "إيران ترغب في سلام دائم في الشرق الأوسط بين المسلمين والمسيحيين، و"حماس" نفسها مستعدة للحياة إلى جانب إسرائيل إذا ما تم منْحها حقوقها وجرى التعامل معها كدولة ديمقراطية وحكومة فلسطينية وتمت إزالة الضغوط عنها..".
خلاصة ما يمكن إستنتاجه أن الموقف الضمني لإيران هو هذا الذي أفصح عنه بكثير من الإيجاز أحد أبناء النظام من الجالسيْن في الصف الأمامي. أما ما نتابعه كموقف من جانب إيران بعد خاتمي فإنه نوع من التلاعب بالأقدار الفلسطينية والإستقرار العربي والمصالح الخليجية.
فؤاد مطر