الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

من "العلا" إلى بغداد.. الطمأنينة تتسع

الرجوع

أُرسلت إلى صحيفة "الشرق الأوسط" 
بتاريخ الأربعاء 30/6/2021

عند التأمل في هذا الجمع العربي المهيب في بغداد يوم الأحد 27 يونيو/حزيران 2021 والمتمثل بإنعقاد ثالث لأهل الحُكْم المصري والعراقي والأردني في بغداد بعد الأول في القاهرة الأحد 25 مارس/ آذار 2019 والثاني في عمان 25 أغسطس/ آب2020، فإن شعوراً من الطمأنينة في النفس العربية يبدد بعض الشيء هموم وإهتمامات مائية وفلسطينية وليبية تعيشها مصر التي من عاصمتها بدأت صيغة دورية هذا اللقاء وعلى نحو ما باتت عليه دورية إنعقاد القمم العربية، يجعلنا نستحضر قمة إغلاق كوة الخلافات وما نتج عنها من قطع العلاقات وتبادُل كلمات أشبه باللكمات أحدثت جراحاً معنوية في النفس، وفتْح بوابة اللقاءات الأخوية وبأرحب ما تكون عليه هذه الخطوة. ونعني بذلك "قمة العلا" يوم الثلاثاء 5 يناير/كانون الثاني 2021 التي جاءت تقوي العزيمة وتجعل مساحة الطمأنينة تتسع بفعل النصح الرسولي "يسِّروا ولا تعسِّروا وبشِّروا ولا تُنفِّروا" المغلف بالحكمة من جانب خادم الحرميْن الشريفيْن الملك سلمان بن عبدالعزيز ورحابة الرؤية الإستراتيجية لولي العهد الأمير محمد بن سلمان الذي في ضوء ما أحدثه التباعد من تأثيرات كان التلاقي هو العلاج. وهكذا فإنه بعدما كانت الخيارات التي إنتجت التباعد صدمة فإن الذي أظهرته الفضائيات العربية يوم إستقبال الأمير محمد بلفتة عناق أخوية تبادلها مع أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني لمجرد نزوله من الطائرة بددت مشاعر ضيق إستقرت لبضعة أشهر في النفوس الخليجية.

وتلك القمة لم تبدد فقط الإنطباع بأن أزمة التباعد إلى مزيد من التعقيد في ضوء ما تحويه مفردات التصريحات، وبإنعقادها إستعادت العلاقات صفاءها، وإنما كانت بمثابة وصفة لعلاج ما هو عالق في فضاء السياسة العربية من إرتباكات في العلاقات وصل بعضها إلى درجة القطيعة. ثم نجد العلاقة المصرية- القطرية تستعيد صفاءها، ونجد أهل الحُكم التركي يعيدون بالتدرج النظر في الإشتباك السياسي والإعلامي مع مصر، ونجد الدبلوماسية العربية ومن دون أي تثاقل أو تحفّظ تتخذ وقفات مدعاة للتقدير إلى جانب السعودية التي يواجه النظام الإيراني بالطائرات المسيَّرة ومن خلال حوثييه مشروعها التنموي، وإلى جانب مصر والسودان في سعيهما لإحقاق صيغة حل توافقي بالنسبة إلى موضوع سد النهضة بحيث لا يتواصل التشبث الأثيوبي إلى درجة لا يعود أمام كل من الرئيس عبدالفتاح السيسي وعبدالفتاح البرهان وبما لمصادفة وحدة الإسم الأول لكليهما من صدى طيب في نفوس شعبيهما، سوى إتخاذ الخطوة الرادعة التي طالما كثر التلويح بها من خلال تصريحات قيلت ومناورات متعددة الأسلحة حدثت وإتفاقيات ثنائية عسكرية أُبرمت. يا ليت الجار الأثيوبي وقد تحقق للرئيس أبي أحمد الفوز الذي كان يتوخاه مبهراً وجاء على نحو فوز الرئيس الإيراني الجديد باهتاً بعض الشيء والمنتكس من جديد في أزمة إقليمه الخارج على طوعه، لا يستهين بالوقفة العربية النوعية التي إتخذها وزراء خارجية الدول العربية تدعيماً للموقف المصري- السوداني الذي يروم الحل المنصف الذي يبقى وليس فرض الأمر الواقع الأثيوبي الذي هو أشبه بلغم يُزرع في طريق العلاقات التاريخية ويتسبب إنفجاره بكارثة تبقى تتفاعل طويلاً.

قد يقال لماذا إقتصار لقاء بغداد على ثلاثة رؤساء ولماذا لا يكون أرحب. تساؤل في محله. لكن العبرة في ما أوحت به القمة المصرية- العراقية- الأردنية وفي ما إنتهت إليه وليس في أنها لم تكن أكثر شمولاً. وهنا يجاز القول إن القادة الثلاثة الذين إلتقوا ليسوا بما يمثِّلوا دولهم وحكوماتهم فقط، وإنما وحيث أن علاقة كل منهم بسائر القادة العرب في أعلى درجات التعاون والتفاهم، فإنهم بذلك كمن عبَّروا في جلسة التشاور في ما بينهم ثم في ما صدر عن لقائهم من بيان وتصريحات، عن بقية إخوانهم القادة. هذا إلى البعد الذي من الجائز الإفتراض أنه أريد من هذا الاجتماع وفي بغداد بالذات. فبعد فوز مدعاة للتساؤل للأكثر تشدداً في انتخابات الرئاسة الإيرانية نشأت الخشية من أن يستتبع ترئيس الأكثر تشدداً تفعيل مرحلة جديدة في المشروع الإيراني تستهدف تطويق السعي الدوؤب من جانب المثلث الرئاسي العراقي (رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ورئاسة البرلمان) لتخفيف أثقال التدخل الإيراني في العراق وتوسيع مساحة السعي لإزالة ندوب في الكيان السياسي وبحيث يستعيد العراق حضوره العربي ويتبدد بالتالي الإنطباع السائد عنه بأنه الحديقة الخلفية للجار الإيراني، وأنه برسم تحويله إلى ما يشبه الصيغة اليمنية الراهنة بمعنى أن تمارس الميليشيات الإيرانية الهوى وهي كثيرة في العراق دوراً ضد السعودية كتلك "المهمة الجهادية" التي تقوم بها الميليشيات الحوثية. ومثل هذا التطلع لا يمكن تبديده إلاّ بإعلاء شأن سيادة العراق وإستعادة صفاء عروبته وهذا ما يتجسد في المشروع العراقي الذي سجل خطوات على هذا الطريق. ولنا في هذا الشأن زيارات نوعية ولقاءات مفعمة بالتفهم قام بها رئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي كان أبرزها تلك التي قام بها إلى الرياض ولقي منها إستقبالاً رئاسياً بإمتياز لم ينله من قبل رئيس عراقي. كما لنا في عبارة لافتة قالها في سياق مقابلة معه أجراها زميلنا رئيس تحرير "الشرق الأوسط" غسان شربل ونُشرت في عدد الإثنين أول مارس/آذار 2021. وفي هذه المقابلة قال ما يمكن إعتباره حيثية في مضامين الهدف من إنعقاد الاجتماع الثلاثي المصري- العراقي- الأردني في بغداد يوم الأحد 27 يونيو. فهو قبل ثلاثة أشهر من هذا الاجتماع ولمناسبة زيارة بالغة الأهمية إلى الرياض قام بها وعقد مع الأمير محمد بن سلمان وليّ العهد محادثات لعلها الأهم في مسيرة العمل العربي قال رداً على بضعة أسئلة "إن الدولة العراقية تحاول اليوم إستعادة توازنها وتحقق نجاحاً على صعيد فرض هذا التوازن...".
وهكذا فإن الجمع العربي الثلاثي المهيب في بغداد كان خطوة متقدمة على طريق تلك الإستعادة للتوازن. كما أنها ربما تبشر خيراً من خلال ما جرى طرحه من أفكار، بأن تستعيد سوريا توازنها وفي وقت ليس بعيداً. وفي ظل هاتيْن الإستعادتيْن يبدأ لبنان السير على طريق السلامة كما يسلك الجمع الفلسطيني بكل أطيافه طريق الهداية.
ويبقى التذكير بأن للزيارة الأولى يقوم بها الرئيس السيسي إلى بغداد أهمية مضافة لها رد فعلها الطيب في نفوس العراقيين الذين ما زالت حاضرة في الذاكرة أن مصر كانت الدولة العربية الأولى التي بادرت إلى إرسال سفير إلى العراق المثخن بجراح الحرب عليه وإحترابات الذين أتت بهم تلك الحرب يمسكون بمقاليد السلطات. ورغم أن ذلك السفير قضى شهيداً في عملية إغتيال له وفي وضح النهار، إلاّ أن مشاعر مصر بقيت في إنتظار مَن يوقد شعلتها. وجاءت زيارة الرئيس السيسي في سياق القمة الثلاثية الدورية تعبيراً مضافاً عن مشاعر عميقة تعود إلى بضعة عقود. والله المعين والهادي.
فؤاد مطر