الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

بوتين.. ومأزقه السوداني

الرجوع

نُشرت في صحيفة "الشرق الأوسط" 
بتاريخ الأربعاء21/7/2021

ما حدث بين مصر السادات وكرملين الترويكا بريجنيف. كوسيغين. بودغورني، على أهبة إكتمال حدوثه بين كرملين بوتين وحُكْم الشراكة المدنية-العسكرية في السودان. في الحالتيْن الجامع المشترَك للمسببات يكمن في الموقف الأميركي.

عندما لم تقرأ الإدارة الأميركية ما أراده عبدالناصر منها في بدايات حكمه فكان الحل التوجه شرقاً سلاحاً وتصنيعاً وتسهيلات لم يحلم بها الإتحاد السوفياتي منذ قيامه، فإن الإدارة الأميركية لم تشد على يد الرئيس عمر البشير الممدودة حاملة ورقة إخراج "سودانه" من العقوبات الجائرة المفروضة عليه وأنها إذا فعلت ذلك فستجد من نظامه ما تطيب له نفْس العم سام الأمَّارة بالإحتواء وضم الدول ذات البعد الإستراتيجي في العالم إلى "الأجندة الأميركية". وكانت هنالك ورقة بين يديْ البشير تُسيل لعاب أي دولة عظمى وبالذات أميركا وهي ورقة الوجود الصيني المستقر نسبياً في السودان والذي حصر نفسه منذ أن شق طريقه إلى الدولة البوصلة بين العالم العربي والعالم الأفريقي، بإهتمامات لا تثير الحساسيات تجمع بين التنقيب عن النفط والإستثمار فيه وبين الطب الصيني بكل أنواع الوخز بالإبرة وتنظيف الرئة ووجع الغَضروف والمعدة بالعشبيات وتخليص الأبدان من الآلام بوصفة الكؤوس يتم إلصاقها على نقاط في الأبدان وإخراج نقاط من الدم الفاسد من أمكنة الألم في هذه الأبدان. ولأن إستراتيجية على هذه البساطة مقرونة بتواضع الصيني وعنفوانه صفتان لدى السوداني أيضاً فإن القبول به كان عفوياً ومن دون تسجيل وقوع حوادث صادمة من جانب الصينيين في السودان، فضلاً عن أن الصين نأت عن دور عسكري لها مكتفية بالجانب الصحي والثقافي والتقني لدورها الذي شمل من جملة الإنجازات تدريب فتية وفتيات يمارسون رياضة الأكروبات ببراهة مدهشة.

الرئيس بوتين الذي راق له المقام البحري في الأبيض المتوسط وبات له وجود دائم عائم في اللاذقية وطرطوس يتطلع كما سابقيه وتحديداً كرملين بريجنيف إلى وجود مماثل في البحر الأحمر. وإغتنم نفور الإدارة الأميركية من نظام البشير والإصرار على إبقائه في دائرة الحصار والعقوبات والتلويح الدائم بالمحكمة الدولية، ودخل على خط تبادُل المغريات مع البشير. وكان أكثر من اجتماع بينهما تولى تسويقه الرئيس بشَّار الأسد. ثم بدأت تتوالى التسريبات فالتصريحات عن أن إتفاقاً تم مع نظام البشير على إجراءات دخول السفن الحربية الروسية والسودانية إلى موانىء البلديْن. أين هي السفن الحربية السودانية؟ كان ذِكْرها لإعطاء الاتفاق صفة محترمة. ثم تلا ذلك تصريح رسمي يفيد ان رئيس وزراء روسيا ديمتري ميدفيديف وافق يوم الأربعاء 9 يناير/كانون الثاني 2019 على مشروع إتفاقية في هذا الشأن.

إتفاقإستراتيجي فيما نظام البشير يزداد تشققاً وبحيث بات واضحاً بعد الإنسجام الذي تحقق بين قيادات فاعلة في المعارضة المدنية وأطياف في المؤسسة العسكرية، أن النظام على طريق الإنصراف، كان مدعاة للإستغراب. لكن الخطة الروسية بقيت متمسكة بما تم الإتفاق في شأنه.

ما لبث أن حدث إنقضاض أميركي تشويقي على الحراك السوداني وتطور بحيث كان أحد شروط إعادة الإدارة الأميركية في موقفها من السودان كدولة وبصرف النظر عما إنتهى إليه نظام البشير أن يعيد الحُكْم التشاركي النظر في كثير من النقاط العالقة، أي بمعنى آخر يتخذ خطوات متدرجة كتلك التي خطاها السادات قبْل خمسين سنة مع السوفيات عندما ألغى المعاهدة وأنهى مهمة الخبراء والمستشارين السوفيات واضعاً الكرملين في أصعب أيامه. بل يجوز القول إن الفعل الساداتي كان أحد صدمات وأسباب كثيرة أدت إلى سقوط نظام ما كان ليتصور أحد أنه قابل للزوال.

إختار السودان أن يكون نجمة أفريقية-عربية في السماء الأميركية الرحبة. فقد أزاح التأثير الأميركي أثقال الديون عن كاهله ورفعت واشنطن الغطاء عن حركات معارضة الأمر الذي جعل النظام  أكثرإستقراراً. وهو من جانبه تجاوب مع خيار التطبيع مع إسرائيل والتعاون بالتدرج في مجالات عدة.

لكن ماذا سيفعل مع روسيا؟ في زمن الترويكا إبتلعبريجنيف ورفيقاه الصدمة بكل ما فيها من مرارة ورفض حتى أن يصار إلى إصدار إعلان مشترَك من جانب بريجنيف والسادات أو من يمثِّلهما بفض الشراكة وإلغاء المعاهدة، وأن تعلن مصر الساداتية هي وحدها ما إرتأتإتخاذه، وذلك من منطلَق أن كرامة الإتحاد السوفياتي لا تسمح بإلغاء معاهدة جاء في مادتها الأُولى "يعلن الطرفان المتعاقدان الساميان رسمياً أنه ستبقى دوماً صداقة لا تنفصم عراها بين كلا البلديْن والشعبيْن...".

في زمن كرملين بوتين من الواضح أن القيصرية البوتينية لا تتحمل خذلاناً سودانياً له ومن أجل ذلك نراه مصراً على إعتبار الاتفاق مع السودان في شأن القاعدة البحرية ملزماً، أي بما معناه لا تلغيه بداية إبرام الإتفاق حيث تمت في عهد نظام سقط وسقوطه لا يعود للنظام الوارث الإلتزام بما تم إتخاذه، ثم إن الكرملين يرى أنه ما دام تم توقيع الإتفاق يوم 23 يوليو 2019 من قِبَل "مسؤول مكلَّف للمجلس العسكري الإنتقالي" فإن الإلتزام به واجب كون نظام البشير كان سقط.

في الماضي قيل للسوفيات من جانب مستشارين في رحاب الرئيس السادات إن المعاهدة عُقدت بين "الجمهورية العربية المتحدة" و"إتحاد الجمهوريات السوفياتية الإشتراكية". أما وقد باتت التسمية "جمهورية مصر العربية" فإن ذلك يجيز التخلص من المعاهدة، وجاء الرد من السوفيات بما معناه " ولكن الذي وضع توقيعه ما زال هو ويترأس مصر". لم تأخذ المجادلة مداها. إرتضى الكرملين على مضض ولم يعد على إشغاله بال مصر. في إنتظار أن يحذو كرملين بوتين حذو السلف الذي لو حكم بما يرضي الناس ويريح الضمير لما كان توارى. والله المعين والحَكَم.

فؤاد مطر