الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

فرصة تلو فرصتيْن.. ولا مَن يبادر

الرجوع

أُرسلت إلى صحيفة "الشرق الأوسط"
بتاريخ الإثنين 23/8/2021

مرة أُخرى لا تُلتقط فيها فرصة كريمة للزعامة الثنائية الشيعية اللبنانية السيد حسن نصرالله الأمين العام ﻟ "حزب الله" والأستاذ نبيه بري زعيم حركة "أمل" لكي تُجري تصحيحاً جوهرياً على صيغة الهوية بحيث لا تعود كفة الميزان الولائي السياسي الإيرانية أعلى من كفة الإنتماء اللبناني وبالذات في لحظات الأوطان المعصوفة على نحو ما هي حال لبنان الوطن والشعب راهناً، بإستثناء الجالسين على قمة السُلطة. والذي يحدُث أنه كلما لم تُلتقط الفرصة تتسع رقعة الحذر من الطيف الشيعي، ثم ينعكس هذا الحذر على حال التعايش والتعامل والشعور بأن الشريان الشيعي في الجسم اللبناني على أهبة مغادرة هذا الجسم. كانت المرة الأُولى لتفويت الفرصة الكريمة هي إعتبار عملية التحرير التي حققت المقاومة من خلال عمليات نوعية لمقاتلي "حزب الله" إزاحة القوات الإسرائيلية التي إجتاحت وإحتلت إلى خارج الأرض اللبنانية، هي اللحظة المناسبة لإقتباس توظيف القيادة المصرية لما حققه الجيش في السادس من أكتوبر/تشرين الأول 1973، حيث رأى الرئيس أنور السادات ما دام أنجز عملية رد الإعتبار إلى سمعة الجيش وإسترد سيناء وألحق هزيمة في الجيش الإسرائيلي إعترف بها أركان الحكم في إسرائيل من مدنيين وعسكريين كما نوّه بها خبراء عسكريون أجانب مع تركيز على قدرات عسكرية مصرية نوعية، فليجرب توظيف الإنتصار الذي حققه، أو بالأحرى فلينقل الصراع مع إسرائيل من حربي إلى دبلوماسي وسياسي. لولا النصر الذي حققه الجيش المصري وأثمر تحريراً لقناة السويس وإستعادة متدرجة لسيناء لما لكان للرئيس السادات أن يخطو الخطوات التالية زيارة منتصر إلى القدس ووقفة خطابية من على منبر الكنيست حول أهمية السلام، والتي أحدثت وقفة مساءلة للنفس غير مسبوقة لدى الرأي العام الإسرائيلي وقوبلت بالرضى الشعبي المتدرج مصرياً ثم عربياً حتى من أطراف تتطلع إلى ما هو كفيل بتحقيق جانب الكسب القومي من توظيف النصر وليس فقط الكسب الوطني. حسابات مَن بيديه مقاليد الحُكْم تأخذ واقعية الأمور في حساب قراراتها وبنسبة ما هي عليه الأحوال العامة. وبماذا أفادت واقعية السادات؟ لقد قطع بخطوة السلام التي إتخذها بعض محطات الطريق، على أن تصبح حال مصر أسيرة خيار عسكري يستنزف قواها ومواردها وهي التي حتى بعد الخيار السلمي تنأى بأثقال الإحتياجات الشعبية من سكن وغذاء. وحديثاً ها هو الرئيس عبدالفتاح السيسي يرى أنه لا بد من علاج لتزايد وتيرة النسل وكيف باتت مصر على مشارف المئة مليون، ويرى أنه لا بد من تنظيم الدعم حتى للرغيف. لو أن السيد حسن إقتبس ما فعله الرئيس السادات لكان الجنوب اللبناني الذي تم تحريره من الاحتلال منصرفاً إلى الإنهماكات بتنمية نوعية، ولكان بثمن الأسلحة لديه تشتريها الدولة منه لتعزيز الجيش وقوى الأمن بحيث كلاهما يستوعبان أفراد الكوادر العسكرية في المقاومة، يستطيع بناء أفضل جامعتين وأفضل مستشفيين تخرجَّان كودار طبية عوض الكوادر العسكرية ولكان أيضاً بالمساعدات التي يجب أخلاقياً عدم وقفها له بنى ألوف المشاغل والصناعات الصغيرة، ولكان بعث الحياة في مناطق الجنوب وكذلك في مناطق تواجده في بلدات محافظة البقاع إلى بلدات مناطق بعلبك-الهرمل، ولكانت هذه العائلات التي تعيش أدنى العيش المذل في مناطق مثل الأوزاعي على أكتاف مطار بيروت وغيرها تركوا هذه البؤر التي لا تليق بكرامة الناس وصحتهم وبدأوا العيش الكريم في قراهم وبلداتهم. ولكان أولادهم وجدوا المدرسة النموذجية والجامعة العلمية والطبية والهندسية كما كانت بناتهم في المشاغل التي تقيهنَّ ويلات الأحلام- الكوابيس. وفي الوقت نفسه يبدأ "حزب الله" حقبة جديدة بحيث تصبح هويته "حزب الله والوطن" ومن دون الشعور بوزر عدم تأدية الواجب القومي، لأنه أداها شأنه في ذلك شأن المصري مع السوري والأردني عسكرياً والإماراتي مالياً والسوداني والجزائري والبحريني والعماني والمغربي والتركي والأندونيسي وكثيرون آخرين كل وفْق ما يسر الله الأمور أدى كل منهم واجبه ضمن خطة مدروسة وبعيدة عن المزايدات لإجبار إسرائيل وإقناع مَن وراء إسرائيل بحسم موضوع الحل وفْق ما تنص عليه مبادرة السلام العربية. الفرصة الثانية التي لم تُلتقط تتمثل في عزوف القطب الآخر في الطيف الشيعي الأستاذ نبيه بري عن تلبية دعوة لزيارة المملكة العربية السعودية جاءته من مجلس الشورى السعودي في زمن كان الدكتور علي عسيري هو سفير المملكة لدى لبنان والذي قلبه على بيروت الحزينة يذرف كلاماً أشبه بدموع العينيْن وهو يتأمل في الذي أصاب وطنه الثاني، إلاّ َأن تلبيتها مؤجلة للسنة الرابعة على التوالي، مع أن مثل هذه التلبية مدخل إلى توضيح أمور تزداد تعقيداً لأن المملكة لا تجد الطرف الشيعي الذي من خلال الحوار يشرح ما هو ملتبس، فضلاً عن أنه في عالم أهل الحكم والعمل السياسي تكون الدعوات من مرجعيات حكومية واجبة التلبية ويكون عدم ذلك موقفاً يؤسِّس لجفوة لا مبرر لحدوثها. وما يمكن أن تحققه الزيارة المرجأة أو التي لم تلبَّ مع ما يسببه عدم التلبية من عتب هي أنها ستحدد بعض الثوابت كما تفتح الطريق أمام تذليل عقبات. ولقد حدثت خلال سنوات عدم التلبية ظروف صعبة كثيرة واجهها لبنان وكانت هذه الظروف خير فرصة لتلبية الزيارة لكن الموجَّهة إليه تعامل وما زال مع الدعوة على أنه جزء من ثنائية شيعية وليس على أنه رئيس البرلمان جاءته الدعوة من مؤسسة مشابهة هي مجلس الشورى السعودي. لم تُلتقط الفرصة وغرق لبنان في الغامض والمجهول ثم إزداد غرقاً إلى أن شكلت الحالة الراهنة التي يعيشها كل لبنان محنة تستوجب من الطيف الشيعي بثنائيته وقفة لا تُتخذ فيها المواقف على أساس هذا حزب يملك جيشه وسلاحه وخطابه الذي لا يفكك تعقيدات أزمة، وهذه حركة تقوى بالحزب ولا تفكك إرتباطاً به على أساس أن أفقها سياسي وليست صاحبة مشروع يرى صائغه الإيراني أن هدفه غير المعلن صراحة هو أن يؤكد عملياً ما سبق وأفصح عنه نظرياً ثورياً من أن حدود إيران هي ضفاف الأبيض المتوسط اللبناني، ثم جاء الأمين العام ﻟ "حزب الله" يضفي تسليماً بهذه الجغرافيا من خلال تحذيره في اليوم العاشورائي الأخير من التعرض لسفينة ناقلة النفط الإيراني التي هي على نحو منظوره أرض لبنانية. وسبق ذلك في معرض الإبتهاج بالتساقط الأفغاني الذي عكسه منظر التدافع في مطار كابول الذي لا يختلف أصلاً من حيث المنطلقات عن هجمة "طالبان أميركا" أي أنصار الرئيس ترمب على مبنى الكابيتول، أن قناة "المنار" قدمت نشرتها الإخبارية المسائية ﻟ "يوم الحشر الأفغاني" بالتلميح في طيات الكلمات إلى أن ما حصل في كابول على أهبة إحتمال حدوثه في بيروت وأن على الذين يعلِّقون الآمال على أميركا أن يأخذوا ذلك في الإعتبار. هذا ما حدث وما قيل في الهواء الطلق وأما الذي يقال في جلسات التداول فإنه أشد تحديداً من ذلك، فيما لبنان الشعب العاثر الحظ بمَن يسوسون أموره ومن خلال قواهم الحربية ومن مغريات المناصب التي يتولونها المحصنة بمواد دستورية كان حرياً بصياغ "مؤتمر الطائف" أن يتريثوا بعض الشيء بأمل أن تكون الحُلية التي أجهدوا النفس في صياغتها ذهباً وليس نحاساً قابلاً للإلتواء من كثرة الطرق عليه. تلك فرصة ثالثة ضاعت أي بما معناه بدل أن يرى الثنائي الشيعي في الذي جرى لأفغانستان وما حدث في مطار كابول أنه خير مناسبة لإحتواء الموقف المتعثر عن سابق تصميم في لبنان، والمساعدة في تشكيل الحكومة وهو (الثنائي) وحده قادر على إيجاد الحل مثلما في إستطاعته العكس، فإننا نراه متمسكاً بموقف قائم على تحالف مع فريق لا يشاركه رؤاه الفكرية وهدفه الفلسطيني وتطلعاته إلى المثالثة، وإنما الجامع المشارك بينهما هو أن يكون لبنان الوطن على ما هي حاله البالغة السوء. هذا مع الأخذ في الإعتبار أن المبادئ والمشاريع الحزبية والثورية لا تعود ذات شأن ولا إصغاء ولا إلتزام عندما يصبح المواطن في الحضيض والوطن على أهبة التساقط. كما يصبح تعديلها كما تعديل مواد في الدساتير أو حتى إعادة النظر جذرياً فيها واجباً شرعياً إذا جاز القول. فهي ليست آيات في كتاب الله ولا هي بالتالي مقدسات وإنما مشاريع وتجارب قابلة لإعادة النظر في ساعات الضرورة ولحظات الخطر. ربما بعد الفرص الثلاث التي أشرنا إليها لن تكون هنالك فرصة رابعة لكي يتم توظيفها. كثيرون من قبل أضاعوا الفرص ثم ضاعوا وضيعوا معهم الشعب المستكين.. والوطن المسكين. فؤاد مطر