الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

الإنسحاب بأقل العواقب.. وأكثر المكاسب

الرجوع

أُرسلت إلى صحيفة "الشرق الأوسط 
بتاريخ الثلاثاء 31/8/2021

كانت الإدارة الأميركية وبالذات رئيسها جو بايدن وصديقه وناصحه من وراء الستار "رئيسه السابق" باراك أوباما يتمنيان إنسحاباً كريماً من أفغانستان كالذي جرى لإنسحاب مصر عبدالناصر من اليمن، ثم بعد عقديْن من الزمن إنسحاب سوريا الأسدية من لبنان مع إختلاف نوعية المراعاة في الحالتيْن والظروف العربية والإقليمية والدولية التي تلازمت مع الانسحاب السوري لم يحظ بمثلها الانسحاب المصري، ذلك أن مصر سحبت "جيشها" من اليمن وطُويت بذلك صفحة تلك العلاقة الإضطرارية الفريدة من نوعها، بينما سحب الرئيس بشَّار الأسد "جيشه اللبناني" الذي أرسله والده وبقيت في لبنان جحافله المدنية-السلاحية وتأثيره البالغ في مسارب الحُكْم وإلى درجة أن له حضوره غير المرئي في الرئاسات الثلاث رئاسة الجمهورية ورئاسة البرلمان ورئاسة الحكومة.. ومن دون حتى أن يزور لبنان. وإذا جاز تحديد نوعية هذا الانسحاب فإنه إنسحاب بأقل العواقب وأكثر المكاسب.

وزيادة في التحديدإنه لولا الحلف شبه المقدس بين نظام الرئيس حافظ الأسد والنظام الإيراني وبات مقدساً في عهد الإبن الوريث لما كان للنظام السوري، حتى بعد الانسحاب عسكرياً، أن يشكِّل رقماً بالغ الأهمية في القرار السياسي والسيادي اللبناني. ونقول ذلك على أساس أن الفاعلية التي كانت للوجود السوري العلني والمقنن وغير المعترَض دولياً عليه بشكل جدي، حلت محلها الفاعلية الناشئة عن ذلك التحالف حيث أن "حزب الله" المتمكن سلاحاً وتدريباً من النظام الإيراني هو ظِل ذلك الوجود بموجب التحالف المشار إليه، وزاده تعزيزاً أن "حزب الله" قاتل في سوريا كفصيل في المؤسسة العسكرية ولم يؤد هذه المهمة بالسر وكان الكلام حولها على الملأ وموضع التباهي بتأدية هذا الدور، حتى أن عبارات كثيرة قالها الأمين العام ﻟ "حزب الله" أوحت بأن لنظام الرئيس بشار عمقه اللبناني المؤثر وكما كان التأثير في الإنتشار العسكري السوري في قوات وآليات ودبابات ومواقع ثقيلة في لبنان من جنوبه إلى شماله إلى بقاعه إلى أقصى هذا السهل الذي بات ساحة إيرانية وعمقاً سورياً. بل إن الوجود العسكري الضارب ذاك شمل الجبليْن الشوفي الدرزي والكسرواني المسيحي بعد الجبل الثالث الشيعي جبل عامل. أما الجبل الرابع العلوي على كتف العاصمة الثانية طرابلس فأمر ولائه محسوم.
القول إن ما حظي به النظام السوري من تطييب خاطر مقابل أن يسحب "جيشه اللبناني" حظي بنسبة قليلة منه عبدالناصر مقابل الانسحاب. ودليلنا على الحظوة البشَّارية أن القمة العربية المستضافة من الملك حسن الثاني (رحمة الله عليه) في فاس عام 1992 ربطت الانسحاب السوري بإنسحاب إسرائيل أولاً من كافة الأراضي اللبنانية. مثل هذا الربط كان لمصلحة سوريا في حال تم الأخذ به وذلك لأن النظام السوري سيبدو أمام الأمة بأن وجوده العسكري في لبنان أجبر إسرائيل على أن تنسحب بدورها، أما في حال لم يتحقق الانسحاب الإسرائيلي فإنه (النظام السوري) لن يلام إن هو أصر على البقاء، كما أنه لمصلحته لأن في عدم الانسحاب الحصول على المزيد من المكافاءات-الضمانات التي تحفظ ماء الوجه. وهذا حدث بالفعل حيث أن مشروع "وثيقة الوفاق الوطني" حول ما إنتهى إليه مؤتمر الطائف (أكتوبر/تشرين الأول 1989) أسبغ على دور النظام السوري العسكري في لبنان محاسن ترفض كل ما يقوله معارضو الوجود السوري في لبنان وأبرز هؤلاء كان الجنرال ميشال عون (رئيس الجمهورية منذ خمس سنوات) من أن هذا الوجود بمثابة إحتلال للبنان (الدور السوري لم يتغير موجود في كنه تحالف إيران وسوريا مع كتفيهما في لبنان "حزب الله" وحزب رئيس الجمهورية "التيار الوطني الحر"). ومما جاء في مشروع الوثيقة الذي أذاعه الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودية (رحمة الله عليه) أمامنا نحن رجال الصحافة الذين تقاطرْنا إلى الطائف وجدة لمتابعة أعمال مؤتمر وضْع لبنان في قفص الشرعية و"إقفال" هذا القفص كي لا يهرب من النواب اللبنانيين من يهرب أو حتى يتهرب "إن لبنان الذي هو عربي الإنتماء والهوية تربطه علاقات أخوية صادقة بجميع الدول العربية وتقوم بينه وبين سوريا علاقات متينة تستمد قوتها من جذور القربى والتاريخ والمصالح الإستراتيجية المشتركة، وهو مفهوم يرتكز عليه التنسيق والتعاون بين البلديْن وسوف تجسِّده إتفاقيات بينهما في شتى المجالات بما يحقق مصلحة البلديْن الشقيقيْن...".
كان واضحاً أن هذا الكلام يتسم بصفة الترويض بأمل أن يتجاوب النظام السوري معه وبذلك يحقق مؤتمر الطائف مبتغاه. ولكن على ما سارت عليه التطورات لاحقاً كان النظام السوري يريد ترجمة ما ورد في مشروع "وثيقة الوفاق الوطني" المشار إليه صيغة أكثر ربطاً وتؤكد أن الانسحاب عسكرياً لا يعني أن حالة جزْر ستحدث بعد حالة مدْ طالت أكثر مما كان يراه الطيف المسيحي اللبناني الذي توجه هارعاً إلى الرئيس حافظ الأسد (رحمة الله عليه) ليخفف عن لبنان الهلع الذي أحدثتْه بحبوحة التصرف من جانب المقاومة الفلسطينية التي أجاز الرئيس عبدالناصر ورئيس الجمهورية اللبنانية شارل حلو لقائدها ياسر عرفات (رحمة الله على الثلاثة) إعتبار الأرض اللبنانية جبهة ضد إسرائيل كما الإعتبار نفسه الذي يفصح عنه النظام الإيراني قولاً والأمين العام ﻟ "حزب الله" السيد حسن نصرالله قولاً ثم فعلاً. جبهتان فاترتان من دون تغيير جذري في واقع الحال.
ولقد حقق النظام السوري مبتغاه في ما يريده من تثبيت لما جاء في "وثيقة الوفاق الوطني" وتحديداً العبارة الترضوية التي أشرنا إليها، ذلك أن الرئيس حافظ الأسد هو الذي إختار الجار البقاعي إبن مدينة زحلة الياس الهراوي بالذات رئيساً للجمهورية وأن الرئيس اللبناني كان عند حُسن الظن الأسدي إذ ما أن طوت سفينة إتفاق الطائف أشرعتها على أعقل صيغة، حتى فاجأ الرئيس الهراوي اللبنانيين وبالذات القطب الأكثر شراسة في معارضة النظام السوري الجنرال ميشال عون بنقلة نوعية في العلاقة حيث أبرم مع الرئيس الأسد ما تجعله يطمئن إلى أن سوريا لن تخرج من لبنان منكَّسة الراية وإنما رابطة الأخ المشاكس لها بمعاهدة جرى التوقيع عليها في دمشق من قِبَل الرئيسيْن حافظ الأسد والياس الهراوي يوم 2 مايو/أيار 1991، وبقي عدم إستكمال التوقيع في لبنان إحتراماً لرئيسه وشعبه من جانب الرئيس الأسد الذي لم يحضر لكي يوقِّع، لغزاً من عشرات الألغاز في مسيرة العلاقة اللبنانية-السورية. وتزداد الألغاز هذه رئيساً للجمهورية اللبنانية بعد رئيس ورئيساً للحكومة بعد رؤساء. ودائماً نرى اللغز حاضراً في المشهد اللبناني. كان الله مع لبنان وحارساً له من أي أفواه فاغرة.
يطول الكلام في مسألة الدور العسكري السوري في لبنان وما أدى إلى إنسحاب قوات وأجهزة مخابرات من دون إندثار ذلك الدور.
ما نريد قوله إن كلا الدوريْن السوري في لبنان بعد المصري في اليمن كانا "نزوة سياسية" إقترف الوزر فيها زعيمان ترك كل منهما مصائر الوطن وخاض تجربة- مغامرة كانت تحتاج إلى الكثير من التأمل في معطياتها. ولا تخفف من وطأة التدخل-النجدة لكل من الرئيس عبدالناصر والرئيس حافظ الأسد أن الدور المصري ساعد في أن النظام الجمهوري في اليمن صمد إنما بلا إستقرار وأن النظام اللبناني ما زال واقفاً إنما في رجفان متقطع.
لعل الإدارة الأميركية التي إرتبط أسوأ الإنسحابات لأعجب ورطات التدخل والحرب في بلاد الآخرين برئيسها الذي إنصرف دونالد ترامب ورئيسها الحالي بايدن تخلو إلى الكثير من التأمل ويعيد الرئيس النظر في إستراتيجيات أصابت الولايات المتحدة بإحراجات. وإعادة النظر أكثر من ضرورية.. مثلما أن التفاؤل بالتغيير هو كما التفاؤل الخير نجده.. والله المنجي.
فؤاد مطر