الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

لغز إستيعاب الإستهانة بالجنرال

الرجوع

أُرسلت إلى "الشرق الأوسط" 
بتاريخ الأربعاء 15/9/2021

عندما كان رئيس حزب "القوات اللبنانية" الدكتور سمير جعجع يسبغ على حليفه اللدود رئيس الجمهورية ميشال عون نعوتاً وأوصافاً وبصيغة المجهول-المعلوم، أي أنه لم يُسمِّه بالإسم، كانت السماء الجنوبية فوق بلدتيْن جارتيْن: عنقون الشيعية ومغدوشة المسيحية تشهد سحابة قاتمة غير مألوفة في فصل الصيف على خلفية تصرُّف عنقوني إستهدف رمزاً مغدوشياً وإختلط في الوقت نفسه سوء الكلام بسوء رد الفعل وإلى درجة أن عدم إحتواء الواقعة الناشئة عن أجواء أزمة المحروقات المتزايدة إذلالاً ربما يتسبب بإنتشار أجواء حرب أهلية يمكن أن تحدث.

واللافت أن رئيس الجمهورية لم يأخذ في الإعتبار ما جرى ويداوي العلة بكلمة يوجهها إلى الناس النائمين على مخاوف في البلدتيْن الجارتيْن في حين ينبرى شاعر مرهف ينثر ما ينظمه بالعامية في صحيفة يومية تشق طريقها بثبات وسط المحنة التي تعيشها الصحافة اللبنانية منذ ثلاث سنوات وتزداد قتامة يوماً بعد أيام، ويخاطب أبناء البلدتيْن بأبيات "عنقون ضيعة ﺑ ريحة الليمون.. وسهولها بالزهر مفروشة.. بس الهوا ﻟ بيروح عا عنقون.. تايمرق ﺑ عنقون بدو يكون ﺑ ريحة زهر ليمون.. مغدوشة". (الصحيفة "نداء الوطن"- الشاعر إبراهيم شحرور). حمى الله البلدتيْن الجارتيْن وسائر البلدات التي الكتف الأيمن للبلدة إمتداد للكتف الأيسر لتلك.
ما يجعل الرئيس ميشال عون غير مكترث بما قاله ألوف اللبنانيين في حقه وبمفردات بالغة الإساءة، وكذلك بما قاله جعجع عنه حديثاً إلى جانب ما يقوله في مجالسه أمام قيادات حزبه وكذلك أمام زواره من أهل السياسة والدبلوماسية العربية والأجنبية وكذلك بعض الذين يزورونه من السياسيين والمسؤولين الأجانب وكما لو أنهم بزياراتهم هذه يفترضون أنه الذي سيترأس الجمهورية في العام 2022 وليس جبران صهر الرئيس.. إن ما يجعل الرئيس عون غير مكترث هو أن تغييره بشكليْ التغيير وبأسلوبيْه غير متيسر كما الذي حدث مع الرئيس الإستقلالي الأول بشارة الخوري، وسيارياً بمعنى "سياسي وعسكري" في مزيج طارئ على الحياة السياسية اللبنانية كما حدث مع الرئيس الخامس سليمان فرنجية عندما إنقسم الجيش "جيوشاً" وإستحوذ كل من أقطاب الأحزاب والسياسة والتنظيم الميليشياوي كل على جيشه. تجربة في غاية المرارة أثمرت سقوطاً متدرجاً لصيغة الديمقراطية المنزهة عن الشوائب والعيش المشترَك الذي طالما كان ورقة تطمح النخبة إلى تطويرها وتثبيتها وبحيث تكسب في بورصة السمعة العربية وتلك الدولية أيضاً.
وما دام الجيش غير وارد الإنقسام وليس هنالك "حميدتي" لبناني كما الذي سبق أن حدث في السودان قبل أشهر ولا حتى "مامادي دومبويا" لبناني على نحو ما حدث في العاصمة الغينية (كوناكري) في اليوم الذي كان جعجع يخاطب جمهوره الحزبي هامراً من الأوصاف المسيئة أثقلها وأقساها على الرئيس عون، عندما إستولى كولونيل على الحُكم ونشر صورة لرئيس الجمهورية على كنبة وهو متهالك وبثلث ثياب وشكله كما الذين يلقي رجال الشرطة القبض عليهم ويرمونهم في "النظارة" أي غرفة الإنتظار للتحقيق معهم عندما يأتي دورهم... إنه ما دام الجيش في لبنان غير وارد الإنقسام فلن يحدث ما حدث في السودان ثم في غينيا. وسيبقى ماثلاً أمامنا مشهد الرئيس (ألفا كونري) الذي كان يدير أزمة شبيهة بالذي حاصل في لبنان، تعيشها غينيا ذات الثروات الطبيعية الهائلة ومع ذلك فقيرة نتيجة حاكمها الذي لم يكتف بولايتيْن رئاستيْن وإنما كان يمني النفس بالبقاء رئيساً للمرة الثالثة.. وخاب التمني.
لو كان ممكناً حدوث حالة مماثلة في لبنان لكان ربما إرتأى الرئيس عون التدارك الممكن وعلى وجه السرعة. لكنه عسكري وهو أدرى بتركيبة الجيش ثم إن ما فعله ماضياً ضابطان أرثوذكسيان من أصحاب العقيدة السورية لا يشجع أحداً على تكرار التجربة، ولا حتى تكرار تجربة ثالثة حاول قائدها السُني أن يجمع سائر الذين معه من موارنة ومسلمين إلاّ أن الدافع لم يكن صافي اللبننة فإنتهت التجربة مجرد حدث لا فرصة لثباته في الصيغة اللبنانية.
إلى ذلك إن الصيغة التي إرتأى الجنرال عون (رئيس الحزب) وهي الإنصهار السياسي سياسياً مع "حزب الله" ومن دون مقدمات وتوضيح هذه الخطوة المستغرب حدوثها كونها تفتقد إلى الجوامع المشترَكة، وهي الورقة التي رأى فيها أن أي تغيير له غير متيسر ما دام الصف المسيحي متشققاً والصف السُني ليس خالياً من التشقق والصف الدرزي في كامل التشقق والجيش في ضوء دروس الماضي لن يدخل طرفاً في أي عملية تغيير ضغطاً أو إنقلاباً.. إن الصيغة المرتآية المشار إليها مضافاً إليها أن "حزب الله" مع الرئيس عون ما دام التحالف الذي أبرمه مع الأمين العام للحزب حسن نصرالله قائماً لا تهزه بعض التباينات الموسمية، هي التي تجعل الرئيس عون يتعامل ﺑ "روح رياضية" مع ما يناله من السهام الواخزة وأحياناً الجارحة تاركاً المقارعة إلى صهره الحالم هو الآخر بأن يكون وارثاً رئاسة جمهورية أرهقت الكاهل اللبناني طوال سنواتها الست وهي جمهورية والد زوجته.
في تاريخ الرئاسة اللبنانية على مدى خمس وتسعين سنة (من 1926 إلى 2021) حالات من الترؤس تراوح بين اللائق والمحترم والمسيء والمهين والجشع والمفسد والقانع والحريص على السمعة بعد الترؤس. لكن معظم الذين سبقوا الرئيس عون في كفة. وأما هو فإن رئاسته كانت حافلة بكل ما يثير الدهشة والإستغراب.
وفي إطلالة تالية على جميع هؤلاء مقرونة ببقية كلام حول "جمهوريته الثنائية" الأُولى من نوعها لجهة نكهة مزيجها الماروني-الشيعي يتأكد لنا ذلك. والله المغيث للبنان الوطن والشعب.
فؤاد مطر