الكاتب

الصحافي و المؤلف فؤاد مطر

تدوير الرئاسة اللبنانية… يا لتلك التخريجة

الرجوع

 

نُشرت في صحيفة "الشرق الأوسط" 
بتاريخ الأربعاء 29/9/2021

تربع إبن الطائفة الأرثوذكسية شارل دباس على كرسي الرئاسة في لبنان تحت الإنتداب الفرنسي ثماني سنوات بدأت في العام 1962. وعندما إنقضى العام الأخير مع بداية اليوم الأول من شهر يناير/كانون الثاني إنصرف عائداً إلى باريس التي فيها زوجته الفرنسية وللعلاج بعدما أصابه المرض، ومع ذلك كان يمني النفس بعد الإبلال من المتاعب الصحية بالعودة رئيساً مستنداً في ذلك إلى أن سِمْعته لدى اللبنانيين كانت طيبة لجهة النزاهة وبساطة العيش حيث كان لا يستعمل سيارة الرئاسة خارج الوظيفة كما كان متقشفاً ولا حاشية له تكتنز من رئاسته. وهو كما الرئيس الجنرال الأول في تاريخ الرئاسة اللبنانية اللواء فؤاد شهاب، كان يعتاش من مرتبه. ونشير إلى أنه على رغم إنزعاج البطريرك الياس الحويك لأن فرنسا إختارت أرثوذكسياً بدل إختيار شخصية مارونية للترؤس، إلا أن المرجعية الفرنسية الإنتدابية تجاوزت الإنزعاج وجددت رئاسة شارل دباس أربع سنوات تلت أربعاً. ثم بعد ذلك تبدلت الحال بإختيار أحد وجهاء الطائفة المارونية في الثلث الأول من القرن العشرين حبيب باشا السعد المحسوب على تركيا كونه أول مسيحي في الشرق الأوسط منحه الباب العالي لقب باشا وبذلك بات لقبه فخامة الباشا الرئيس. وكما بدعة التجديد من جانب فرنسا لمن يترأس على نحو ما حدث مع الأرثوذكسي شارل دباس، فإن المرجعية الفرنسية التي طيَّبت خاطر البطريرك أنطون عريضة الذي تقلد المنصب الروحي خلفاً للبطريرك الحويك الذي توفي، جدَّدت رئاسة حبيب باشا السعد مرتيْن، سنة لكل مرة. وهذا من أجْل رحابة الإسترضاء ولأن التجديد بدعة غير مستحبة عموماً.

كما الرئيس السلف شارل دباس الذي يظهر على الناس معتمراً القبعة الفرنسية، فإن حبيب باشا السعد الذي كان أول معتمري الطربوش التركي بين رموز الصفوف المتقدمة من العمل السياسي في لبنان (منهم على سبيل المثال لا الحصر الصلحيان رياض وتقي الدين وصائب سلام) عُرف الرئيس اللبناني الثاني في عهد الإنتداب بالنزاهة وعدم توظيف المنصب لإكتناز الثروات، مسجلاً بذلك أنه كما شارل دباس من نسيج الماروني الآخر فؤاد شهاب. ولقد ترك الإثنان كل زوجته تعيش من معاش تقاعدي زهيد. مثل هذه السلوكيات إنطبقت في السبعينات على الرئيس جمال عبدالناصر دون سائر الرؤساء العرب حيث أنه رحل دون أن يترك ثروات وأن أرملته بقيت حتى وفاتها تعيش من راتب شهري تقاعدي.

غادر حبيب باشا السعد المنصب الذي شغله لمدة سنتيْن (30 يناير 1934- 20 يناير 1936) وسمعته عطرة. لا تهجمات عليه ولا ألفاظ مسيئة في حقه. ولا كتابات على جدران شوارع بيروت تنال منه كما الحال مع الرئيس ميشال عون. كما لا رغبة في البقاء رئيساً سنة جديدة، وبذلك إستحق من جانب الناس ذكْره بالخير.

ثم بدأ العراك السياسي على أشده مع إختيار فرنسا النائب في البرلمان إميل إده رئيساً للجمهورية كونه إبن عائلة مارونية مرموقة. وكان تعيينه على نحو ما يعيشه لبنان الحاضر منذ أن تم ترئيس الجنرال ميشال عون رئيساً للجمهورية. فكما أن العراك السياسي داخل الطائفة المارونية على أشده بين "القوات اللبنانية" التي يتزعمها الدكتور سمير جعجع و "الكتائب اللبنانية" التي يتزعمها المحامي سامي الجميّل حفيد مؤسس هذا الحزب المسيحي الماروني في معظمه والإبن الثاني للرئيس اللبناني السابع في زمن الوصاية السورية أمين الجميّل، و"التيار الوطني الحر" الحزب الذي أورث الرئيس الحالي ميشال عون قيادة هذا الحزب إلى زوج إبنته جبران باسيل... كما العراك الماروني الراهن على أشده فإن عراك الثلاثينات والأربعينات بين المتطلع إلى الترؤس بشارة الخوري مستنداً إلى "الحزب الدستوري" الذي يتزعمه في مواجهة إميل إده وحزبه (الكتلة الوطنية) الخالي من أي سلاح كما سلاح بشارة الخوري. وفي جولات العراك السياسي من جانب كليهما كان التخاطب أقل حدة مما بات عليه من جانب سمير جعجع وسامي الجميّل من جهة والطيف العوني بتنوع رموزه من جهة مقابِلة.

أمضى إميل إده الذي أبصر النور في دمشق خمس سنوات رئاسية مبهرة مع بعض العصف ورحل تاركاً الإرث الذي هو علة لبنان عند تشكيل الحكومات وفق مادة من إبتكاره وبالتشاور المتوازن مع السيد الفرنسي تضمنتها المعاهدة اللبنانية- الفرنسية وهي 6 و6 مكرر وبموجبها يكون توزيع المناصب على الطوائف. ورغم أسلوبه البليغ عند إلقاء خطاب ما حيث يستحضر فيه أقوالاً مأثورة أو أبياتاً من الشعر، إلا أن الزعيم "الكتلوي" لم يفعل كما خصمه "الدستوري" بشارة الخوري بمعنى أنه خلال السنوات الثماني التي تلت مغادرته المنصب الرئاسي لم يكتب مذكراته، في حين أن بشارة الخوري كتب المذكرات بعدما بات رئيساً سابقاً ومن دون أن يؤاخذ نفسه في سطور منها رغم ترؤسه الجمهورية الأولى للبنان المستقل يوم 21 سبتمبر/أيلول 1943 (فيما إميل إده يواصل ما تبقَّى من الهمة تنشيط مكتب المحاماة الذي تخرَّج منه حقوقيون بارزون) وبقي على مناكفته للرئيس السلف المستضعَف إميل إده. ولطالما لام كثيرون بشارة الخوري لأنه أمر السلطات الأمنية بعدم تشييع جنازة إميل إده من منزله في بلدة صوفر الجبلية (مصيف كبار الشأن السوري واللبناني في العشرينات حتى الخمسينات) كي لا يتحول التشييع إلى تظاهرة شعبية حافلة ضد الرئيس- الخصم بشارة الخوري. وتلك في أي حال ليست السقطة الوحيدة ذلك أن آخر ثلاث سنوات من ترؤسه شبيهة بعض الشيء لجهة الحاشية وأفعال الحاشيين بمعظم سنوات الرئيس ميشال عون، الرئيس الأول في زمن الوصاية الإيرانية المرصعة بتقاليد الوصاية السورية. يا لسوء أقدار لبنان وطناً وشعباً.

وللحديث بقية.

 

فؤاد مطر